18 نوفمبر 2024
جدل دراما رمضان التونسية
أثار قرار وزيرة الثقافة التونسية، شيراز العتيري، أخيرا، الترخيص لشركات الإنتاج والقنوات التلفزية الخاصة استئناف التصوير لإتمام الأعمال التلفزية المعدة لشهر رمضان، ردود أفعال متباينة ضجت بها شبكات التواصل الاجتماعي، ذهبت في مجملها إلى استهجان القرار، واعتباره خرقا صارخا للقوانين التي فرضت الحجر الصحي في البلاد، بل ذهبت عرائض توجهت إلى رئيس الجمهورية، طالبة تدخله، حمايةً للدستور الذي يحمّله واجب حماية أرواح التونسيين، علاوة على اعتبار ذلك من أشكال عدم مساواة المواطنين أمام القانون. ولكن الوزيرة في بلاغ (بيان) صدر عنها في هذا الخصوص توضح أن رئيس الحكومة اتخذ القرار بعد التشاور مع أهل المهنة، ومع وزارة الصحة التي لم تعترض، وإنما أوصت باتخاذ أعلى درجات الوقاية، حفاظا على سلامة الممثلين والتقنيين، وبقية العاملين في إنتاج هذه المسلسلات والمنوعات الرمضانية عموما. وستخضع الأعمال الدرامية لإجراءات وقائية مشدّدة، بحسب ما أكدت الوزارة في بلاغٍ ثانٍ صدر لتهدئة موجة الاستنكار تلك، وهي تضع ذلك كله على مسؤوليتها ومسؤولية الحكومة عموما، غير أن بعضهم استبق الأمور، وبدأ يحاكم الجميع بجرمٍ لم يُقترف بعد.
جاءت معظم المواقف المناهضة للإجراء المعلن ملتبسة، تجمع بين الخوف من أن يكون ذلك فرصة لانتشار الوباء وتقييم سلبي لأعمال درامية سابقة، وخصوصا أن أغلبها في السنوات الفارطة سقط في الرداءة حسب اعتقادهم، محرّضا "على العنف والانحراف عموما". كما أن هؤلاء لا يستبعدون أن وراء قرار الترخيص لوبيات مال ثقافي ضاغط، في لا مبالاة بصحة العاملين في قطاع الدراما، إذ تتحالف عادة شركات إنتاج الأعمال التلفزية تلك مع شركات الإشهار والدعاية التي تغتنم بث تلك المسلسلات "لقصف" المشاهدين بأطنان الومضات الإشهارية السخيفة، والتي تمجد قيم التبذير والتفاهة. ويتدعم موقف هؤلاء حين يطلع المرء على بيان غرفة النقابية الوطنية لمنتجي السينما والسمعي البصري، الذي استنكر هذا الترخيص، واعتبره خضوعا لموقف رئيس الحكومة الذي ربما وقع تحت تأثير بعض الدوائر. وقال ناقدو قرار الترخيص إن تلك الشركات تريد التربح من الوباء، فهي تماما بمثابة أثرياء الحرب الذين لا يأبهون بصحة المواطن البسيط ورغيفه الذي أصبح كابوسا يوميا يسحقه. وعلى أهميته، فإن هذا البيان يخفي صراعات بين أرباب المهنة والنافذين فيها.
ويعتبر المدافعون عن سلامة الموقف أن وزيرة الثقافة مارست حقها، وتصرّفت بعد الرجوع إلى
رئيس الحكومة ووفق الأعراف، بعد التنسيق مع الوزارات الأخرى المعنية. ويرون قرارها حصيفا، سيمكن التونسيين من الالتزام بالحجر الصحي، إن تواصل في شهر رمضان. وقد ملّ الناس من المكوث في المنزل، وقد تغريهم تلك الأعمال التلفزيونية بمواصلة البقاء في البيوت، تجنبا لمخاطر الخروج.. (هذه الحجة استحضرها بلاغ وزارة الثقافة)، فالتقاليد الاجتماعية والرمضانية تدفع التونسيين إلى السهر خارج الفضاء الخاص، المقاهي ومحلات التسوق، كما يستحضر هؤلاء بطالة الفئات التي تحصّل رزقها من تلك الأعمال، ممثلين وتقنيين وعمالاً ينتظرون موسم رمضان للعمل، وتحسين ظروفهم المعيشية. وهذه الحقيقة تختلف مع الصور النمطية، فأغلب هؤلاء ينتسبون إلى فئات مهمشة، وفي أغلبهم خارج أي نظام تغطية أو حماية اجتماعية.
وبقطع النظر عن صلابة هذه الحجة أو نقيضها، ليس من حق الوزيرة، في تقدير كاتب هذه المقالة، أن تمنح التراخيص، وفق تقييم مسبق لتلك الأعمال الفنية تلك، فضلا عن أنه ليس من مشمولاتها أصلا، وإلا عُدّ ذلك رقابة مسبقة يمنعها الدستور، في الفصل 33 "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات". وتلبيس الموقف بين استهجان الترخيص والاستياء من "مستوى" بعض الأعمال لا يمنح الحجّة الكافية للمعترضين، خصوصا وأن ذلك لا يستحضر الحرص على احترام القانون، أو الحفاظ على صحة المواطنين، بقدر ما يأتي، في معرض عرض الحجج، إلى نقد أعمال درامية منتجة سابقا.
السؤال خارج جدل الترخيص للأعمال الدرامية، زمن الحجْر الصحي: كيف يمكن أن تكون الأعمال الدرامية والفنية صدى عميقا لتحوّلات المجتمع التونسي وأشواقه نحو قيم الحرية والكرامة، في انسجام مع ثقافته الوطنية، من دون أن نعود إلى توجيهات "عقل الدولة" أو رهن إرادة المثقفين للتمويل العمومي وابتزازهم (حيل هندسة الضمير الجمعي مجددا)، خارج سياق الحجر الصحي، ستعود تلك القنوات إلى الإنتاج، وستحقق نسب مشاهدة قياسية؟ ولكن هل كان في مقدور فئات واسعة تحمّل كل هذا الحجْر، لولا الأعمال الثقافية وسحر الشاشة: التلفزة الصغيرة التي رافقتها؟ تحتاج الأعمال الدرامية في بلادنا العربية كثيرا من الجمال والعمق الفكري والحس الأخلاقي المرهف، حتى تكون في مستوى اللحظة، ونحن نستعد لمرحلة "ما بعد كورونا".
ويعتبر المدافعون عن سلامة الموقف أن وزيرة الثقافة مارست حقها، وتصرّفت بعد الرجوع إلى
وبقطع النظر عن صلابة هذه الحجة أو نقيضها، ليس من حق الوزيرة، في تقدير كاتب هذه المقالة، أن تمنح التراخيص، وفق تقييم مسبق لتلك الأعمال الفنية تلك، فضلا عن أنه ليس من مشمولاتها أصلا، وإلا عُدّ ذلك رقابة مسبقة يمنعها الدستور، في الفصل 33 "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات". وتلبيس الموقف بين استهجان الترخيص والاستياء من "مستوى" بعض الأعمال لا يمنح الحجّة الكافية للمعترضين، خصوصا وأن ذلك لا يستحضر الحرص على احترام القانون، أو الحفاظ على صحة المواطنين، بقدر ما يأتي، في معرض عرض الحجج، إلى نقد أعمال درامية منتجة سابقا.
السؤال خارج جدل الترخيص للأعمال الدرامية، زمن الحجْر الصحي: كيف يمكن أن تكون الأعمال الدرامية والفنية صدى عميقا لتحوّلات المجتمع التونسي وأشواقه نحو قيم الحرية والكرامة، في انسجام مع ثقافته الوطنية، من دون أن نعود إلى توجيهات "عقل الدولة" أو رهن إرادة المثقفين للتمويل العمومي وابتزازهم (حيل هندسة الضمير الجمعي مجددا)، خارج سياق الحجر الصحي، ستعود تلك القنوات إلى الإنتاج، وستحقق نسب مشاهدة قياسية؟ ولكن هل كان في مقدور فئات واسعة تحمّل كل هذا الحجْر، لولا الأعمال الثقافية وسحر الشاشة: التلفزة الصغيرة التي رافقتها؟ تحتاج الأعمال الدرامية في بلادنا العربية كثيرا من الجمال والعمق الفكري والحس الأخلاقي المرهف، حتى تكون في مستوى اللحظة، ونحن نستعد لمرحلة "ما بعد كورونا".