جدل العنصرية ووحشية الشرطة في الولايات المتحدة
من ناحية، لا شك في أن القيم الأميركية ونظامها الدستوري، بما يقدمانه من ضمانات للحرية والديمقراطية والعدالة، متقدمان على كثير من نظرائها الدوليين، حتى ضمن الفضاء الحضاري والثقافي الغربي، غير أنه، على المستوى العملي، فإن الواقع الأميركي لا يقدم الصورة الوردية نفسها التي تحملها القيم والدستور الأميركيان، نظريا. ضمن هذا السياق، يمكن الحديث عن نواقض كثيرة في الانطباع الإيجابي الذي تحاول الولايات المتحدة ترويجه عن نفسها عالميا. ويكفي، هنا، التذكير بالانتهاكات الجسيمة للقوانين والمعايير الدولية التي مارستها، ولا زالت، الولايات المتحدة، سواء عبر العدوان على دول مستقلة، أم ضمن سياق "الحرب على الإرهاب"، والقتل المُسْتَهْدَفِ خارج القضاء، ومعتقل غوانتنامو سيء الذكر، وممارسات التعذيب التي تورطت فيها أجهزتها الاستخبارية في حق معتقلين، لم يحصلوا على حقهم في محاكمات عادلة، إلخ. غير أن مُلَطِّخاتِ الصورة الوردية التي تحاول الولايات المتحدة رسمها عن نفسها لا تقتصر على قضايا تتعلق بسياساتها الخارجية، وبحق أجانب، فحسب، بل إنها تشمل، أيضاً، ممارسات داخلية، وبحق مواطنيها أنفسهم.
ضمن هذه المُلَطِّخاتِ المشككة بالمثال "الاستثنائي" للولايات المتحدة، يمكن الحديث عن اثنين معاصرين، يمتحنان الأنموذج الأميركي اليوم، هما العنصرية ووحشية الشرطة. هذا العنصران متداخلان إلى حد كبير، ولا يمكن فصلهما، في أحيان كثيرة، عن بعضهما. وقد عززت سلسلة من عمليات قتل قام بها عناصر شرطة أميركيين بيض بحق مواطنين سود في الآونة الأخيرة من هذا الزعم. وقد أثارت عمليات القتل هذه، غير المبررة، موجة احتجاجات شعبية ساخطة في مدن أميركية كثيرة.
حادثتا نيويورك وسانت لويس
مثلا، رفضت هيئة محلفين في نيويورك، يوم الأربعاء (3/12)، توجيه اتهامات بالقتل لضابط الشرطة الأبيض، دانييل بانتاليو، لتسببه في يوليو/تموز الماضي، في مقتل إريك جارنر (43 عاما)، وهو أميركي أسود وأب لستة أبناء. فعلى الرغم من أن جارنر لم يرتكب مخالفة خطيرة تستوجب استعمال العنف لاعتقاله، حيث أنه كان يبيع سجائر، وهو لم يكن مسلحاً، إلا أن رجال الشرطة هجموا عليه، ووضع بانتاليو ذراعه حول عنقه وخنقه، بعنف لإيقاعه أرضا، في حين ضغط آخر على صدره بشدة، ما تسبب بوفاته، حسب تقرير الطبيب الشرعي، خصوصاً أنه مصاب بالسمنة ومرض الربو. وقد سجل أحد المارة عملية الاعتقال الوحشية هذه، كاملة، على كاميرا هاتفه، وفيها يسمع جارنر، وهو يقول "لا أستطيع التنفس"، إلى أن يخمد صوته.
قرار هيئة المحلفين بعدم توجيه أي اتهام لضابط الشرطة، جاء بعد تسعة أيام من قرار هيئة محلفين أخرى في مدينة سانت لويس، في ولاية ميزوري، عدم توجيه اتهامات لضابط شرطة أبيض آخر قتل شاباً مراهقاً اسمه مايكل براون (18 عاما)، في أغسطس/آب الماضي، في مقاطعة فيرغيسون. براون قتل بست رصاصات، على الرغم من أنه لم يكن مسلحاً، وعلى الرغم من أنه رفع يديه مستسلماً لرجل الشرطة، حسب إفادة شهود، غير أن ضابط الشرطة زعم أنه تعارك مع براون، وبأنه اضطر للدفاع عن نفسه.
في حالتي جارنر وبراون، الضحيتان سوداوان، كما أن الاثنين ضخما الجثة، وفي الحالتين كلتيهما، أشار رجلا الشرطة إلى حجم الضحيتين، لتبرير استخدام العنف بحقهما، بحجة الخوف على سلامتيهما. غير أنه إذا لم يكن هناك تصوير فيديو في حالة قتل براون، لدحض رواية رجل الشرطة، فإن الأمر ِجدُّ مختلف في حالة جارنر، أضف إلى ذلك أن أسلوب الخنق بالذراع ممنوع في نيويورك على الشرطة. ومع ذلك، لم يختلف قرار هيئة محلفي نيويورك، أبداً، عن قرار هيئة محلفي سانت لويس، وهو ما يشير، حسب مراقبين عديدين، إلى عامل العنصرية في الحالتين، ولميل رجل الشرطة الأميركي لاستخدام العنف القاتل، ومن خلالهما، يمكن التعميم على حالات أخرى كثيرة.
العنصرية ضد السود
بحسب مكتب العدل الأميركي للإحصاء، شكل السود في عام 2009 ما نسبته 39.4% من العدد الكلي للسجناء، على الرغم من أن نسبتهم في المجتمع الأميركي لا تتعدى 13.6%. أيضا، فإنه، واستناداً إلى معطيات مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف. بي. آي) عام 2012، فإن الشرطة تقتل على الأقل 400 شخص سنوياً، أكثر من ربعهم (بمعدل اثنين كل أسبوع) سود يقتلون على أيدي رجال شرطة بيض. وحسب المعطيات نفسها، فإن أكثر من 18% من هؤلاء الضحايا هم تحت سن الواحد والعشرين، مقارنة بـ8.7% من البيض فقط.
وفي السياق نفسه، يفيد تقرير للمعهد الحضري (2012)، بأن نسبة البراءة ضمن قانون ما يعرف بـ"أثبت مكانك"، المعمول به في ولايات أميركية كثيرة، تبلغ 354% إذا كان القاتل أبيض والضحية أسود، مقارنة بما إذا كان القاتل أبيض والضحية أبيض كذلك. منطق قانون "أثبت مكانك" أنه يحق لأي شخص أن يرفض التحرك من أي مكان يحق له أن يكون فيه قانونيا، حتى لو اضطر لاستخدام القوة القاتلة في سبيل ذلك. وكثيراً ما يستخدم البيض هذا القانون، في الولايات التي تشرعه، مبرراً لاعتدائهم على أسود، أو قتله، بذريعة أنهم شعروا بالتهديد. وحسب المعهد الحضري، فإن مثل هذا القانون، ونسبة البراءة العالية لمرتكبي الجرائم من البيض بحق السود باسمه "يجعلان من السود متهمين مدى الحياة". وحسب دراسة للاتحاد الأميركي للحريات المدنية (إي. سي. آل. يو) صدرت العام الجاري، فإنه تم اللجوء إلى القوات الأمنية الخاصة شبه العسكرية، (سوات)، في عامي (2011-2012)، بنسبة أعلى، عندما تعلق الأمر بالشغب القادم من السود، مقارنة بأي عرقية أخرى في الولايات المتحدة.
كل المعطيات السابقة، دفعت، الأسبوع الماضي، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، والمرشحة المحتملة للرئاسة عن الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، إلى أن تصف هذا الواقع بـ"الحقائق الصعبة"، منتقدة "التمييز العنصري في نظام العدالة الأميركي". وقالت كلينتون إن السود الأميركيين، خصوصا من الرجال، هم أكثر عرضة، لأن توقفهم الشرطة. وأشارت إلى أنه في وقت يشكل فيه الأميركيون 5% من عدد سكان العالم، إلا أن السجناء في الولايات المتحدة يشكلون 25% من نسبة السجناء في العالم.
وحشية الشرطة
هذا العنف الذي تمارسه الشرطة الأميركية، لا ينحصر في بعده العنصري، فحسب، بل إنه يصل إلى حد سوء استخدام السلطة، بل والوحشية كذلك مع كل مكونات المجتمع الأميركي. مرد هذا العسف يرجع إلى أسباب عدة. فمن ناحية، تستخدم الأجهزة الأمنية البلدية والولائية عتاداً عسكرياً يسلم لها سنوياً عبر برنامج تديره وزارة الدفاع "البنتاغون"، واسمه "برنامج 1033"، وبمقتضاه ينقل البنتاغون عتاداً عسكرياً إلى أجهزة الأمن الأميركية الداخلية، بقيمة مئات ملايين الدولارات سنوياً. ويشمل هذا العتاد عشرات آلاف البنادق الآلية ومخازن الذخيرة، وآلاف من الزي العسكري ومعدات الرؤية الليلية، فضلا عن مئات من كواتم الصوت والعربات المصفحة والمدرعات والطائرات.
وبسبب الصورة المخيفة التي ظهرت بها الأجهزة الأمنية في أثناء احتجاجات فيرغيسون في أغسطس/آب الماضي، فإن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أمر بمراجعة هذا البرنامج، وضرورة أن تتأكد وزارة الدفاع مما إذا كانت تلك الأجهزة الأمنية تتمتع بالتدريب والإشراف الكافيين للتعامل مع هذا العتاد، وما إذا كانت الحكومة الفيدرالية تراقب كيفية استخدام تلك المعدات التي تقدمها لهم.
سبب آخر لوحشية الشرطة، يتمثل في أن القوانين الفيدرالية، وتلك المعمول بها على مستوى الولايات، تجعل من شبه المستحيل إدانة رجال الشرطة في عمليات قتل، من حيث أنها تشترط سقفاً عالياً للإدانة. فأولاً، على المدعي أن يثبت أن رجل الأمن تعمد محاولة حرمانه من حقوقه المدنية، كما أن كل ما على رجل الأمن أن يزعمه أنه عندما استخدم القوة المميتة، فإنه استخدمها نتيجة خوفه على حياته أو سلامته، وضمن بروتوكولات التدريب الذي تلقاه. هذه التعقيدات هي ما دفع أوباما إلى أن يعتبر أن وحشية الشرطة ليست عارضاً لمشكلة عرقية، بقدر ما أنها عارض لمشكلة أميركية.
في المحصلة النهائية، العنصرية ووحشية الشرطة أمران حاضران في الواقع الأميركي، وهما يعيبان نظام العدالة الأميركية، ويجرحان في مصداقيته، إن لم يتم وضع حلول ناجعة لهما. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تدين لجنة مناهضة التعذيب الأممية، وخبراء حقوق إنسان مستقلون في الأمم المتحدة، هذه الممارسات والانتهاكات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية الأميركية، فحتى "منارة الحرية والديمقراطية"، بحاجة إلى من يذكّرها بالقيم والمعايير الديمقراطية التي تتشدق بها.