اثنان وأربعون سنةً تمرّ على رحيل الشاعر الجزائري - الفرنسي جان سيناك (1926 ـ 1973)، ولا يزال الكثير من الغموض يلفّ ظروف وحيثيات اغتياله. يوجّه عددٌ من المثقّفين أصابع الاتهام إلى نظام الرئيس الراحل هواري بومدين؛ إذ يجزم عدد من معاصريه بأنه كان "ضحية مؤامرة سياسية"، جعلته يتلقّى 23 طعنةً ذات ليلة صيفية من عام 1973، في الجزائر العاصمة. حينها، كتبت جريدة "المجاهد" بأن الجريمة كانت بدافع السرقة، كما أعلنت عن فاعل مُفترض اسمه محمد بريج، ثم أُغلق الملف.
ربما، لو كان مالك حداد وطاهر جاووت ومولود معمري وجمال عمراني بيننا اليوم، لأخبرونا بالذي حدث فعلاً. لكن الموت غيّب كل الذين قد يُدلون بشهاداتهم عن القضيّة، ولم يبق منهم غير وزير الثقافة آنذاك، أحمد طالب الإبراهيمي.
وُلد سيناك عام 1926 في مدينة بني صاف الساحلية قرب وهران، لأمٍّ إسبانية وأبٍ مجهول. تعدُّد الثقافات وهذا المزيج الجزائري الإسباني الفرنسي في حياته، أثرى هويّته وهيّأ له الظروف ليكون شاعراً، يسارياً مطالباً بالعدالة. يبدأ الكتابة في 1940 وهو في الرابعة عشرة من العمر، فيستقبله المشهد الأدبي الفرنسي اليساري بحفاوة.
ينشر أشعاره ويؤسّس صالوناً أدبياً ويُطلق مجلاّت ثقافية منها "شمس" (1952) و"سطوح" (1953)، يفتح، من خلالها، مساحةً لعدد من الكتّاب الجزائريين، على غرار محمد ديب ومولود فرعون ومالك حدّاد وكاتب ياسين.
لكن انتماءه إلى الحركة الوطنية الجزائرية، تحديداً "حزب الشعب" ثم "جبهة التحرير الوطني"، جعله محلّ انتقاد من الفرنسيين الذين اتّهموه بالخيانة. هكذا، سيترك صالوناته الأدبية وعمله في الإذاعة الفرنسية، ليلتحق بالثورة التحريرية ويشارك في تحرير صحيفة "المجاهد" السرية، لسان حال جيش و"جبهة التحرير الوطني"، مؤكّداً بذلك انتماءه الجزائري.
وعن هذا يقول: "لقد وُلدت جزائرياً، وكان يلزم أن أدور في كل اتجاهات القرون الخوالي لأصبح جزائرياً، لذا لن أُعير اهتماماً لهؤلاء الذين يريدون لي سماوات أخرى غير جزائرية".
بعد الاستقلال، اختار سيناك الجزائر لإكمال ثورته الثقافية فيها؛ حيث شارك في تأسيس "اتحاد الكتّاب الجزائريين"، إلى جانب مولود معمري وترأّسه ما بين عامي 1963 و1967. في تلك الفترة، قدّم برنامجاً إذاعياً بعنوان "أشعار على كل الجبهات"، قرأ فيه محاولاتٍ شعرية لأصوات شابة.
كان مدافعاً عن العربية والأمازيغية ولا يحمل ضغينة لأحد، وجمعته صداقة مع الرئيس أحمد بن بلّة، فمنحه الأخير منزلاً، اعترافاً له بما قدمه للثورة الجزائرية.
غير أن الانقلاب العسكري الذي قاده بومدين عام 1965 ضد بن بلّة، كان كذلك انقلاباً كلياً في حياة الشاعر: سُحب منه المنزل المطل على البحر، وتوقّف برنامجه الإذاعي بمرسوم وزاري وقّعه الإبراهيمي، وكذلك مخصّصاته الشهرية كمستشار ثقافي في وزارة التربية؛ ما جعل وضعه المادي والنفسي يتدهور، ليجد نفسه في عزلة موجعة.
وجد "يحيى الوهراني"، كمّا يسمّيه أصدقاؤه، نفسه في غرفة بائسة هي عبارة عن قبو مظلم، يعيله معارفه، وكان الأطفال يسخرون منه ويقذفونه بالحجارة وهو يعبر شوارع المدينة بملابسه المهترئة والمتّسخة.
يُورد الكاتب الجزائري الراحل رابح بلعمري، والذي وضع أطروحته للدكتوراه بعنوان "جان سيناك بين الرغبة والألم"، نصّاً كتبه سيناك في آب/ أغسطس 1972 قبيل اغتياله، حيث كان يعيش في ضائقة شديدة: "هذه الليلة، في قبوي الصغير، بعد تجاوز القمامة، الفئران، والسخريات والظلام الرطب، على ضوء شمعة، عشرة أعوام بعد الاستقلال، ممنوعاً من الحياة وسط أهلي، أكتب... في البدء هناك محاولة هذه الرواية التي اصفرّت منذ 1962 في الحقيبة، والتي لن أغيّر فيها فاصلة... ".
حياة سيناك كشفت له أنه شقيق السيئ والمُقصى: "إلى حدّ أننا ذات يوم، نجد أنفسنا حين نستيقظ شبه ملتصقين، مثل توأمين.. صمت، إهانة، كبت. إنها أمور كانت من نصيبي".
كان سيناك قد تنبّأ بذلك المصير، إذ كان يشعر أن قدراً مشتركاً سيجمعه مع لوركا، الشاعر الإسباني الذي أعدمه فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية؛ إذ كان يقول: "سيقتلونني مثل لوركا، وسيُوهمون الناس بأن الأمر يتعلّق بمسألة أخلاق".
هكذا صدقت نبوءته في نهاية مأسوية تلقّى فيها جسده النحيل 23 طعنة من سارق مزعوم، في 30 آب/ أغسطس 1973.
الآن، وبعد كلّ هذه السنوات: ما هو السيناريو الأقرب إلى الواقع؟ وهل سيجرؤ أحدهم على إعادة فتح الملفّ للتحقيق في القضية؟
يرجّح بعضهم أن معارضته وكتاباته القاسية ضدّ نظام بومدين أدّت إلى اغتياله: "لقد دنّستم شرف إنسانيتنا/ دنّستم صرخة الروح/ ونحرتم إرادة الحياة فينا/ وحانت ساعتكم/ لتقتلوا فيّ حرّيتكم/ لكن زهرة القنب البرية/ لم تولد إلا لتعود في النهاية/ إلى تربتها الأم/ وستعرفون كم أني/ أموت موتة متفائلة".
يذهب آخرون إلى أن سيناك كان يعمل لصالح المخابرات الفرنسية وهذا سبب تصفيته، وهناك من يقول عكس ذلك تماماً، أي أن المخابرات الفرنسية هي من قامت بتصفيته. لكن الكثير من المثقفين يؤكّدون أنه كان ضحية مجتمع لا يتقبّل الآخر، ولم يفتح الأفق للحريات.
في هذا السياق، يعتقد كثيرون أنه كان ضحية حملة قادها الإبراهيمي ضد المثلية، بعد مجاهرة الشاعر عبر برنامجه الإذاعي بميوله المثلية قائلاً: "هذا الجسد المسكين يحتاج، هو أيضاً، حرباً تحريرية". وقد علّق على الحملة ساخراً: "لو مضينا في هذا المنطق إلى الآخر، فسيتوجّب علينا تغيير أسماء نصف شوارع الجزائر"، وهو الموقف الذي فتح ضدّه كل الجبهات.
شُنّت ضدّ سيناك حملة إعلامية لاذعة، وقّع بعدها الإبراهيمي على قرار وزاري يقضي بتوقيف برنامجه، ثمّ أخذت أوضاعه تسوء أكثر، حتّى نهايته المأساوية. إثر الحادثة، قام بعض المثقفين باحتجاجات ضد الجريمة، مؤكّدين أن محمد بريج شخصية وهمية لا وجود لها على أرض الواقع، لتعود صحيفة "المجاهد" وتتدارك الأمر، قائلةً إن الجريمة قُيّدت ضد مجهول.
هذا المجهول أصبح له اسم بعد أقل من عشرين عاماً، وقام باغتيال الطاهر جاووت ويوسف سبتي وكثير من الكتّاب والصحافيين، وأدخل الجزائر، طيلة "العشرية السوداء" في نفق مظلم لم يكن فيه مكانٌ للمثقّف أو للآخر.
صالحت الجزائر القَتَلة بسرعة، لكن كان عليها انتظار أكثر من ثلاثة عقود لتصالح سيناك الذي ظلّ غائباً ومهمّشاً في المشهد الثقافي والإعلامي الجزائري. كان ذلك عام 2004، عندما قدّم المخرج عبد الكريم بهلول فيلمه السينمائي "اغتيال الشمس"، ولاحقاً في 2008، صدرت ترجمة لمجموعة من أشعاره أنجزها محمد بوطغّان، تحت عنوان "شموس يحيى الوهراني".