يبدو حاضرنا دائماً وجوداً مؤقّتاً وهشّاً، صيرورة غير مستقرة بنيوياً، كما يقول جاكومو مارّاماو (1946)، في كتاب "فلسفة الأكوان المعولمة.. حوارات مع جاكومو مارّاماو" (دار "بولاتي بورينغيرّي"، 2017).
ويعتقد أن مشكلة الحاضر وتصوّره هي مشكلة فلسفية أكثر ممّا هي تاريخية. والحاضر الذي يشير إليه هو "الغرب"، وبالضبط "المركزية الأوروبية" التي لا تلين ولا تُهادن في المسائل التي تتعلق بتطلّعاتها الاستراتيجية، دون أن يغيب عن باله أنه يجب النظر أيضاً إلى الطريقة التي تُعالج بها "المشكلة الفلسفية المستديمة"، ومقاربتها مع احتياجات الكائن البشري لعالم يتماشى مع طموحاته وأحلامه بمستقبل أفضل.
ويبدو أن هذه المشكلة التي واجهت الإنسان منذ الأزل، لا شيء يُنبئ عن إيجاد حلّ لها في الزمن القريب، ولا حتى البعيد، طالما أن الإنسان يأبى إلا أن يعيد نفسه في أشكال وصور عفى عليها الزمن من التكرار، على الأقل في البيئة الأقرب إلينا.
يبقى سؤال لا ينفكّ يُقحم نفسه بين كل سطر وآخر من هذا الكتاب: من أين تنحدر مفاهيم الوجود المؤقّت؟ أمن الهشاشة أم الصيرورة، أم من كليهما؟ ليس من القواعد العلمية حتماً، يجيب الكاتب، ولا من التاريخ الذي استحضره، ولا حتى من الفلسفة المعاصرة، صحيح أنها تغطّي كل شيء، بما في ذلك عدم الاستقرار، ولكن امتداداتها لا تزال محصورة ضمن سياقات محدّدة.
من هذه السياقات التي تتجسّد أمامنا منذ زمن طويل، وضعية الشخص الذي يتأمّل خانعاً قدره، أو ما أقنعوه أنه قدره الوحيد، لأنه يعتقد أن وضعه غير مستقرّ، مؤقّت، ويقرّر أن يغيره، أو على الأقل أن يكون على غير ما هو عليه الآن.
ولكن الفلسفة التي تبلورت عند الإغريق القدماء، قامت بمبادرة راديكالية بالدرجة الأولى، لأنها لأول مرة اعتبرت عدم استقرار الأشياء في العالم يتأتّى من وجودهم، وتعلّقهم المؤقت بالوجود، لينحدروا مجدّداً إلى عدم الوجود.
عدم وجودهم يكافئ وجودهم العدمي، معادلة يبدو أن إنسانَنا لم يفهمها حتى الآن، مع أنهم، كما يُشاع، حاولوا أن يقوموا بحشوها في رأسه حشواً، بالقوّة والبطش أحياناً، وبالمُلاينة والسلاسة أحياناً أخرى، إنّما دون فائدة تذكر. عقل جامد منحوت من حجر صوّان!
وفي مقاربة، يبدو أنها هي الأخرى عدميّة، حاولت بعض الشعوب التلاعب بالحبكة ومسارات السرد، وحتى المساس بالشخصيات الرئيسة، متوارية خلف جدليات إبداعية ترمز في ما ترمز إلى إعادة بنية الوجود، أو تأطيره بإحساس كان يبدو، حسب رأيهم، غائباً، مثل المواطنة وتكافؤ الفرص وغيرها من الترّهات.
عندئذ، قام الطرف الآخر بهدم هذا الوجود الهشّ والمؤقت على رؤوسهم، مجازاً طبعاً، لأن الواقع، انطلاقاً من السياق الفلسفي نفسه، ينفي هذا التصوّر، محتكماً إلى مقولة تعكس تماماً مسوّغاته، إنّما تبرّر بطريقة ما منبع استلهامه، السلطة المغايرة لما هو شائع، بل تنكر بحزم كلّ المقوّمات التي ترتكز عليها.
لا ينفي هذا الكلام أي مستجدّات مُحتمَلة، حتى لو أنها تعود إلى أزمان سحيقة، لأن المستجدّ الحقيقي هو ذاك الذي لا زال يستمدّ قواه وتصوراته من أسباب بقائه، حتى لو استدعى الأمر استبدال شعب بآخر، تطبيقاً للشعار الذي رفعته الجموع بنفسها، إنما بطريقة معكوسة، تيمّناً بمقولة من يزرع ريحاً يحصد عاصفة.
الصيرورة إذن، لها أسباب بقائهاً، قاسية بعض الشيء، وربّما تغالي أحياناً في القسوة إلى حدّ أبعد ممّا يمكن أن يتصوّره عقل بشري، بيد أن كل هذا يبقى مجرد تفصيل لا أهمية له أمام متطلبات شخص لم يُنهِ بعد أحلامه.
وأشد ما يمكن خشيته، أنه لم يبدأ حلمه الأول بعد، كما تكشف عن ذلك أحداث تُوهِمُ بوقوعها وأخرى تستبق أوانها، وأخطر ما فيها النية الصلبة في مداورة طواحين الهواء، بل اعتبار ذلك المنفذ الأخير لاستقرار بنيوي وسلطوي مستديم.