ثورة أم مؤامرة؟
منذ انطلاق شرارة الثورات العربية من تونس، أواخر عام 2010، والجدل المحتدم حولها لم يتوقف، خصوصاً أن ثمة من اعتبرها مجرد مؤامرة غربية-صهيونية-إسلامية! لتهديد استقرار الدول العربية ووحدتها. كثيرون من أصحاب هذا الرأي، يتغاضون، عامدين، عن التربة الخصبة المهيئة لقيام ثورة، أو تمرد، على أنظمة حكم فاشلة، ومتخلفة وقمعية، واكتفوا بترديد تلك الأسطوانة المشروخة: "مؤامرة".
اللافت، في هذا السياق، أن من ردّد، ولا زال، زعم المؤامرة، لم يقتصروا فقط على أنظمة الحكم التي عصفت بأوتاد خيامها رياحُ التغيير، ولا على أنصار "نظام الممانعة" السوري الذين استدعوا، جميعاً، حكاية "الفوضى الخلاقة" التي أطلقتها من قبلُ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندليزا رايس. الأدهى أن ثمة كثيراً من شعوبنا تبنّى هذا الزعم، والذي ترسّخ، أكثر فأكثر، في وعيهم الجمعيّ، بعد أن رأوا ما ترتب على هذه الثورات من فوضى وانقلابات وقتل، بل قلْ، وردّة وعودة إلى واجهات أنظمة الحكم القمعية ذاتها، سواء عبر الانقلاب، كما في مصر، أم عبر صندوق الاقتراع، كما في تونس. دع عنك، طبعاً، الفوضى "المُهَنْدَسَةِ" الكاسحة وتبدّل المحاور والتحالفاتِ في ليبيا ما بعد معمر القذافي، ويمن ما بعد علي عبد الله صالح، من دون أن ننسى الدمار الكارثي الذي حل بسورية جرّاء حروب الوكالة فيها، على حساب ثورة شعب منكوب.
وإذا كان من المفهوم أن يتبنّى أنصار أنظمة القمع واعتذاريّوها زعْمَ المؤامرة، فإن تبنّي كثير من ضحايا تلك الأنظمة لذات الزعم يغدو أمراً مستفزاً. هنا، قد نتفهم منطق بعض شعوبنا التي آمنت بأن كل ما جرى من ثورات كان مؤامرة، بناءً على الخلط الذي وقع عندهم ما بين المنطلقات المعتبرة لتلك الثورات، وأهدافها المشروعة، وبين ما انتهى إليها حالها من بؤس، إلى اليوم على الأقل. ولكن المشكلة الأكبر أن ثمة نسبة كبيرة من هذه الشعوب ردّدت زعم المؤامرة منذ شرارة الانطلاقة الأولى، وكأن تلك الأنظمة العربية التي واجهت عواصف التغيير كانت ديمقراطية، ناجحة، تحكم دولاً متقدمة ومستقرة، وتعكف على بناء مستقبل زاهر وواعد! ويغدو السؤال هنا، لماذا؟
للإجابة على هذا السؤال، فإنه لا بدّ من استحضار زعم "الاستثنائية العربية" التي يتم صناعتها منذ عقود، وذلك بهدف تطويع الإنسان العربي ليكون راضياً ببؤس حاله، مستسلماً لقضاء استعباده، قابلاً بقدره الكئيب. نعم، إن الإنسان العربي تعرّض، ولا زال، لغسيل دماغ شرير. لقد بلغ حجم التدمير المعنوي المسلَّط عليه حدّاً أصبح هو نفسه يمارس التدمير الذاتي. تُرَى أنَسَيْنا كم تغنَّا الإنسان العربي ببيت الشعر ذاك الركيك والعنصري التافه:
شعبٌ إذا ضُرِبَ الحذاءُ بوجهه صاحَ الحذاءُ بأيّ ذنبٍ أُضرَبُ
إن ذلك المستوى من التحقير الذاتي الذي تعرّض له الإنسان العربي مقصودٌ وممنهج. لقد تعرّض لعملية تنميط وأدلجة ليرضخَ للذلّ والعبودية، وليرضى بحال الضحية التي تصل بعد نقطة معينة من التعذيب والانتهاك النفسي والعاطفي، إلى حالة من التماهي مع ما يزعمه المجرم، بأنها (أي الضحية) هي المتسبّبة في كل ما يجري لها وبأنها تستحقه. وبالتالي، ينبغي عليها القبول والرضوخ لمطالب، وتوجيهات الظالم المجرم الذي يصبح بهذا مجرد "مصلح" و"ناصح" ظلمته الظروفُ، ومضطرٍ للتعامل بقسوة للسيطرة على "طياشات" الضحية و"حماقاتها" الذاتية!
هذه هي مشكلتنا الأساس اليوم. ففي شعوبنا المنتهكة حقوقُها وكرامتُها مَن تماهَى مع زعم الجلاد، بأننا لا نُساس إلِّا بالعصيّ والرصاص! لقد تمَّ العبث بآدمية الإنسان العربي إلى الحدّ الذي آمن فيه الكثيرون بأنهم خُلقوا موضوعاً لا ذاتاً، أذلاءَ لا كراماً، عبيداً لا أحراراً. ولكن، هل فعلاً كانت الثورات العربية مؤامرة؟
لا شكّ أن السطور السابقة تنفي قناعة الكاتب بهذا الزعم. فالمنطقة العربية، في جُلِّها، قدرُها الانفجار والفوضى، وإذا لم يحدث ذلك في الأمس، أو اليوم، فإنه حادث غداً. وإذا لم يحدث في القريب العاجل، فإنه واقعٌ، لا محالة، في البعيد الآجل. إن الأوضاع في عموم الفضاء العربي غير قابلة للاستمرار. لا يمكن للقمع أن يستمر إلى الأبد.. لا يمكن للتسلط أن يبقى همّاً ثقيلاً جاثياً على صدور الناس دون زحزحة.. لا يمكن للفساد أن يستمر دون نهاية.. لا يمكن للفقر والكبت أن يبقيا دون ردّ فعل.. لا يمكن للمستقبل أن يبقى دون أفق واعد.. لا يمكن للتخلف في زمن عولمة التكنولوجيا أن يبقى قدراً لا مفرَّ منه.. لا يمكن أن نبقى أمة مستهلكة والعالم كله ينتج.. لا يمكن.. لا يمكن..
هذا هو واقع العالم العربي لعقود، وهو لا زال كذلك. إنه واقع آسن، راكد، وكئيب، ولكن الإنسان العربي، من حيث كونه بشراً على الأقل، يبقى عنصراً حيوياً، متدفقاً، يرنو إلى حياة عِزٍّ وكرامة.. نعم يرنو إلى حياة أفضل، حياة فيها معنى.. هذه غريزة إنسانية، مهما حاولوا طمس إنسانيتنا.. ومهما حاولوا تحطيم كرامتنا.. ومهما حاولوا تيئيسنا.. الخ.
ثورات العرب لم تكن مؤامرة، بل إن غيابها هو ما كان سيكون مؤامرة، وعدم قيام ثورات جديدة ردّاً على القاع الذي نقبع فيه سيعني أن "الطاغية"، سواء أكان من داخل الدار أم من خارجها، قد نجح في نزع الروح الإنسانية منّا، وهو ما لا يمكن أن يكون. إنّ من خُلِقَ حرّاً، مكرماً، لا بد أن تعود به غريزته وفطرته يوماً إلى أصله ومنبعه، وهو أمر لا شك واقعٌ، اليوم أو غداً.