تونس ومعادلات وعوائق ما بعد الثورة

17 ابريل 2014

متظاهر تونسي يحتح على أحكام بقضية شهداء الثورة (أ.ف.ب)

+ الخط -
أثارت الأحكام التي صدرت الأسبوع الماضي، عن محكمة الاستئناف العسكري في تونس، والتي قضت بتخفيف الأحكام الصادرة بحق متهمين بجرائم دموية وبالمسؤولية عن دماء شهداء الثورة التونسية وجرحاها، وإسعاف متهمين آخرين في القضية نفسها، موجات غضب بعد تأجيل التنفيذ وعدم سماع الدعوى. ما يعني، من الناحية الفعلية، الإفراج عنهم وتبرئة ساحتهم من جرائم القتل العمد بحق أبناء الشعب. وقد أَثارت هذه الأحكام ردود أفعال واسعة، من أهالي الشهداء والجرحى، ومن قوى سياسية ومدنية عبّرت عن استهجانها ورفضها لهذه الأحكام. غير أن متتبّع المسار الذي اتخذته الثورة التونسية يجد أن ما جرى يمثّل تتويجاً لسياق عام بُني، منذ البداية، على نمط من التوافقات والتنازلات المتبادلة، بعيداً عن منطق المغالبة، أو اللجوء إلى لغة الحسم الثوري.
بعد فرار المخلوع زين العابدين بن علي، لم تستطع قوى الثورة حسم مسألة الحكم الذي ظل في أيدي أركان النظام السابق، ممثلة في محمد الغنوشي، رئيس حكومة بن علي، ورئيس الجمهورية حينها، فؤاد المبزع (رئيس برلمان المخلوع)، وحتى بعد الحراك الثوري المتواصل، واعتصامي القصبة 1 و2، فقد انتهى الأمر إلى تسليم رئاسة الحكومة إلى الباجي قائد السبسي، وهو أحد رموز النظام القديم، لتنطلق، بعدها، لعبة التوافقات والتسويات التي قادتها هيئة الإعداد لانتخابات المجلس التأسيسي.
وفي تساوق مع هذا الحراك السياسي، تحرك أساطين السلطة من الحرس القديم في اتجاه التخفيف من وتيرة الحراك الثوري، وإجهاض محاولات المحاسبة وإقرار عدالةٍ انتقاليةٍ حقيقيةٍ، تعيد الحق إلى أصحابه. ويمكن أن نلاحظ، بنظرة سريعةٍ، أن نسق التعيينات في ظل حكومة السبسي كان متسارعاً، حيث أعادت الدولة العميقة هيكلة ذاتها، لتتهيّأ للتعامل مع الوافد الجديد إلى السلطة بعد الانتخابات.
مباشرةً، إثر تولّي حكومة الترويكا (ضمّت حركة النهضة وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات) الحكم، بدأت الأزمات في التتالي، بشكل متواصل. في البداية، تفككت القوى الثورية، المعنية أصلاً بنجاح الثورة، لتنشغل بأجنداتها الحزبية، وتصفية حساباتها الأيديولوجية مع القوى الجديدة الصاعدة إلى السلطة، والتي كانت حليفتها بالأمس. ولم نعد بعدها إزاء عمليةٍ ثوريةٍ، وتغييرٍ جذريٍّ للمعادلة السياسية، وإنما تحوّل الأمر إلى لعبة سلطة/ معارضة، من دون أن تتوافر الشروط الموضوعية لمعادلة كهذه، خصوصاً بالنسبة لبلدٍ لا يزال في مرحلة انتقالٍ ديموقراطيٍّ، ولم تجف فيه دماء الشهداء بعد. فما بالك أن يستقر فيه المشهد السياسي، في تحالفاته المتقلبة.

قوى الثورة المضادة
فشلت الترويكا في إيجاد تحالفٍ واسعٍ من القوى الثورية لإدارة الحكم، وركّزت جهودها على إنجاح تجربتها في الحكم، والتعامل مع الوضع المضطرب، وكأنه حالة طبيعية، يمكن في ظلها تحقيق نجاحات اقتصادية واجتماعية.
في المقابل، اتجهت قوى المعارضة، مستندةً الى الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى تحريك قضايا مطلبية، وإثارة الشارع، والتعامل مع الحكومة الوافدة، بوصفها نظاماً معادياً ينبغي إفشاله، ولو أدى الأمر إلى التضحية بالمكاسب الثورية التي تحققت حتى تلك اللحظة. وفي خضمّ هذا الصراع المتصاعد، سارعت قوى الثورة المضادة إلى إعادة تشكيل ذاتها، ومَركَزَة مصادر القوة لديها، من أجل استعادة زمام المبادرة من جديد، مستفيدةً، في ذلك، من جملة عوامل، يمكن توصفيها على النحو التالي:
ـ شبكات إعلامية واسعة نشأت في ظل النظام السابق، وظلت معاديةً لروح الثورة، وتسوّق خطابات الإحباط، وتثير الحنين إلى زمن الرئيس المخلوع، وتنشر الدعايات السوداء، وتكسر روح الثورة، من قبيل التخويف من انتشار الإرهاب وانعدام الأمن، وترويج أن ما جرى لم يكن ثورة، وبالتالي خطأ أن ننتظر منها نتائج ثورية، والتركيز على القتامة المفترضة للوضع الاقتصادي والاجتماعي، وأن الدولة على حافة الإفلاس، وتكرار الخطاب الذي مؤدّاه أن الوافدين الجدد إلى الحكم ليسوا رجال دولة، ولا علاقة لهم بمنطق السلطة، (هذا صحيح في جانب منه)، غير أن الخطير فيه هو الإعداد النفسي للشعب، من أجل عودة رموز الحكم القديم.
ـ دولة عميقة تمثّلت في أجهزة الدولة وإداراتها المتعددة التي رفضت التعاون مع الحكام الجدد، بل وتحولت قوة جزرٍ تكبح جماح كل عملية إصلاحية حقيقية، حيث لم يشعر المواطن التونسي بتغييرٍ فعليٍّ بعد الثورة، في ظل استمرار الممارسات القديمة، بل وتزايدها (رشوة، محسوبية، فساد إداري، واستزلام على أساس الولاءات والقرابات).
ـ نقابات أمنية نشأت باعتبارها استمراراً للبوليس السياسي الذي تم حله (نظرياً)، ولعبت دور المدافع عن رجل الأمن المضطهد، لكنها، في جوهرها، مثّلت أحد "اللوبيات" التي تحاول فرض أجنداتها الأمنية، من أجل تعطيل محاسبة الفاسدين في أجهزة وزارة الداخلية، ووصل بها التغوُّل إلى حد عدم احترام رموز السلطة الجديدة الناشئة (حادثة طرد الرؤساء الثلاثة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2013 أثناء موكب تأبين "عوني" حرس وطني).
ـ قوة رجال الأعمال المتنفّذين وأصحاب المصالح الفعليين ممّن أَثروا زمن المخلوع، عبر علاقاتهم مع مافيات الطرابلسية (أصهار الرئيس المخلوع) أو عبر صفقات مشاريع يتم إنجازها لصالح الدولة، وكان يتم الحصول عليها عبر قنوات فاسدة.
وإذا أضفنا إلى هذا كله حوادث اغتيال سياسي (مقتل شكري بلعيد ومحمد البراهمي)، جرت في ظروفٍ غامضة، فقد انتهى المشهد بصعود قوى الثورة المضادة، لتصبح مُكافِئاً موضوعياً لأحزاب السلطة التي بدأت بالتآكل الداخلي، والشعور بالضعف، والعجز عن الأداء المتوازن، خصوصاً في ظل الضغط الدولي. إضافة إلى ضغط التحالف الداخلي الذي ضم قوى كثيرة، كانت في لحظة ما متنافرة (الالتقاء بين الجبهة الشعبية التي تضم أحزاباً يساريةً وقوميةً مع "نداء تونس"، أبرز قوى الثورة المضادة، بالإضافة إلى الأحزاب الوسطية، مثل الحزب الجمهوري، في إطار ما سُمي حينها جبهة الإنقاذ الوطني، ربما تيمّناً بالتجربة المصرية التي أفضت إلى انقلاب عسكري). وكان مطلبها الأساسي، مثلما ورد في بيان التأسيس الذي وزعته في 26 يوليو/ تموز 2013 "تشكيل حكومة إنقاذ وطني، محدودة العدد، لا تترشح في الانتخابات القادمة، متطوعة برئاسة شخصية وطنية"، بالإضافة إلى إنهاء أعمال المجلس الوطني التأسيسي الذي اعتبرته فاقداً للشرعية.

صراع مفتوح
وتطورت حالة التجاذب السياسي بين القوى إلى نوعٍ من الصراع المفتوح وسياسة عضّ الأصابع، والتي أفضت، وفي ظل حالة التكافؤ (خصوصاً بعد انكفاء الجيش عن اللعبة السياسية، ورفضه الانقلاب على المسار الانتقالي) إلى إقرار ما سيُسمّى الحوار الوطني،  تحت رعاية الرباعي الراعي للحوار، ويضم الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر اتحاد عمالي) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (يضم رجال الأعمال) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الهيئة الوطنية للمحامين. وكانت مخرجات هذا الحوار تعبيراً فعلياً عن لعبة التوازنات، حيث تم الانتهاء من صياغة الدستور، والاتفاق على حكومة توافق وطني، في أفق إنجاز الانتخابات، قبل نهاية سنة 2014، حسبما ينص على ذلك الدستور الجديد في باب الأحكام الانتقالية.
على الرغم من كل هذه الصعوبات والمعوقات، يمكن القول إن النخبة السياسية التونسية تمكنت من تجاوز حالة المضيق السياسي، ومواصلة مسار الانتقال الديموقراطي، بعيداً من سيناريوهات الانقلاب وحروب الإلغاء المتبادل
، من دون أن ينفي هذا جملة من الحقائق،  لعل أهمها:
ـ تراجع المسار الثوري لمصلحة لعبة التوافق السياسي ومنطق التوازنات القائم على إكراهات الواقع.
ـ صعود قوى الثورة المضادة، وتحولها إلى رقم يصعب إلغاؤه، أو إبعاده، وحتى محاولات إقرار البند 19 من القانون الانتخابي، والذي ينص على إبعاد رموز النظام السابق عن المشاركة الانتخابية، لم يعد يجد قوة سياسية كافية لتمريره في المجلس التأسيسي.
ـ محاولة تصفية كل القضايا العالقة، منذ رحيل الرئيس المخلوع، ومنها الأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية، بخصوص المورطين في قضايا قتل شهداء الثورة، وأيضاً رفع حظر السفر عن رجال أعمال مستفيدين من النظام السابق.
يظل حصاد الثورة التونسية أفضل من غيره من الثورات العربية التي ظلت تراوح مكانها بين الانزياح إلى الفوضى أو الردة إلى منطق الانقلاب، من دون أن يعني هذا أن ثورة شعب تونس حققت أهدافها جميعاً، أو أنها واصلت نسقها الثوري بشكل تصاعدي. وفي ظل منطق المقارنات الذي لا يغيب، يمكن القول مع المثل العربي: "العمش ولا العمى".
                                                        
 
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.