تونس: مخاض صعب لحكومة ستبقى مهددة

06 يناير 2020
انطلق التشكيك في استقلالية الجملي منذ تكليفه(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
هل ستولد فعلاً الحكومة التونسية برئاسة الحبيب الجملي في 10 يناير/كانون الثاني الحالي؟ سؤال مطروح بإلحاح بعد كل هذا التعثّر والدوران الذي استمرّ قرابة الخمسين يوماً قبل تقديم التشكيلة الحكومية. وعلى الرغم من أنّ رئيس الحكومة المكلف سلم قائمة أسماء وزرائه إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الذي بدوره أحالها إلى رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، إلا أنّ الحديث عن احتمال إدخال تعديلات جديدة على القائمة النهائية ما زال مستمراً. إذ قال الغنوشي في رده على أسئلة للصحافيين أخيراً إنّ التعديل وارد، في حين اندلع نقاش قانوني حول مدى دستورية مثل هذا الإجراء، وهو ما دفع برئيس الحكومة إلى التصريح بأنّ ذلك احتمال وارد، ولكن بعد التصويت عليها وحصولها على موافقة البرلمان. لكن لماذا كل هذا المخاض الصعب والغريب؟ ومن يقف وراءه والمتسبب فيه؟

بعد مفاوضات عسيرة مع أحزاب "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" وحزب "تحيا تونس"، سقطت صيغة حكومة سياسية ذات "منحى ثوري"، وطرح الجملي بناء على انسحاب هذه الأحزاب صيغة "حكومة كفاءات وطنية مستقلة عن جميع الأحزاب". وعلى الرغم من أنّ هذه الصيغة تبدو بسيطة وسهلة مقارنة بغيرها، إلا أنها تحوّلت إلى مشكلة معقدة وملغمة.

لم يكن لدى رئيس الحكومة قائمة جاهزة من الأسماء، إذ طلب من أطراف عديدة، في مقدمتها حركة "النهضة" مده بمرشحين، واشترط أن يكونوا مستقلين حزبياً ومن ذوي الكفاءة ومشهودا لهم بالمصداقية. تعددت المطالب والترشيحات، فانتهى إلى صيغة غير مسبوقة حين اعتمد تطبيقاً إلكترونياً أدرج ضمنه جميع السير الذاتية التي قدمت له، فظهرت أمامه قائمة اسمية. بعد ذلك غيّر بعض الأسماء في ضوء ما رشح له من معلومات، كما استعان بمن استشارهم هنا وهناك، حتى اطمأن نسبياً إلى قائمة بدا له أنها ستكون "نهائية" و"مقنعة"، لكن ردود الفعل لم تأتِ وفق التقديرات التي وضعها لأسباب عدة.

أولاً، حركة "النهضة" هي التي اختارته وكلفته. فهو لا يستطيع أن يتجاوزها كلياً على الرغم من تأكيده أنّ فريقه الحكومي سيكون مستقلاً عن الجميع، وهو شرط لم تقبله "النهضة"، لأنه يجردها تماماً من صلاحياتها، ويكاد يخرجها من اللعبة بينما هي الفائزة في الانتخابات. وقد أطلق هذا الشرط جدلاً عاصفاً داخل الحركة، وبين أعضاء مجلس الشورى، إذ لم يتردد بعضهم في المطالبة علناً بالتخلي عن الجملي والدعوة إلى ما سبق أن أطلقت عليه حركة الشعب اسم "حكومة الرئيس".

لم يكن هناك إجماع في صفوف "النهضة" حول تكليف الجملي، وانتقد بعضهم هذا الاختيار صراحة منذ البداية، لكن بلغ الغضب أقصاه عندما استند الجملي على أرشيف وزارة الداخلية للتأكّد من استقلالية بعض المرشحين، ودفعه الشكّ إلى العودة إلى سنوات القمع في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وهو ما جعل أحد نواب "النهضة" يقول إنّ خروج الجملي عن سياسة الحركة "كاد أن يكلفه سحب التكليف منه". على هذا الأساس، قرّر مجلس الشورى التصويت للحكومة من باب تحملها للمسؤولية، لكن بشرط "تغيير بعض الوزراء وإلغاء بعض كتاب الدولة (وزراء مساعدون)". وهو ما يعني عملياً تغيير وجهة الحكومة من كفاءات مستقلة، إلى حكومة سياسية أو شبه سياسية، وبالتالي العودة من جديد إلى التشاور مع الحركة في هذا الشأن.

ثانياً، الاصطدام برئيس الجمهورية الذي طلب من رئيس الحكومة المكلف تغيير بعض الوزراء الذين وضعت أسماؤهم في القائمة الأولى والثانية، غير أنه لم يجد التفاعل الذي كان يتوقعه من الجملي. وقد أثار ذلك انزعاج سعيّد، الذي تجنب الردّ المباشر، وتعهدت بذلك المكلفة بالاتصال في الرئاسة، رشيدة النيفر، التي أكدت في تصريح لها أخيراً أنّ رئيس الدولة "عبّر عن احترازه من بعض الأسماء في حكومة الجملي ودعاه إلى التدقيق فيها ومراجعتها قبل الإعلان عنها". وعلى الرغم من أنّ الجملي حاول التخفيف من المسألة عندما اعتبر أنّ تصريح النيفر "أسيء فهمه"، وأنّ "الحديث عن وجود اعتراضات وأنه تمسك بتركيبة الحكومة مُبالغ فيه"، إلا أنّ الجميع أدركوا أنّ العلاقة بين القصرين ليست على ما يرام (قصر الرئاسة وقصر الحكومة)، وهو ما عانت منه البلاد في مرحلة الترويكا، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

ثالثاً، انحياز جزء واسع من وسائل الإعلام ضدّ الجملي. فقد انطلق التشكيك في استقلالية الرجل منذ لحظة التكليف، ثمّ تطور الأمر إلى التشكيك في قدراته. في الأثناء، ارتكبت بعض الأخطاء التواصلية نتيجة الفريق المحيط بالجملي. ومما زاد في تغذية الانتقادات، حالة التردّد التي سادت لفترة طالت، صاحبها رواج أسماء وسقوط أخرى. وعندما أعلم الجملي الصحافيين بأنّ الحكومة أصبحت جاهزة بعد تسليمه القائمة النهائية إلى رئيس الدولة، رفض الكشف عن أعضائها، وهو ما فتح الباب أمام التأويلات في كل الاتجاهات. ثمّ حصل تسريب للقائمة عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما أحدث صدمة لدى الرأي العام. واشتدّ استهداف الرجل مباشرة بعد الإعلان النهائي عن تشكيلة الحكومة من خلال استهداف معظم الأسماء التي وردت بها. كل ذلك أحدث تشويشاً كبيراً، وانعكس سلباً على صورة رئيس الحكومة حتى قبل أن يتسلم مهامه رسمياً.

رابعاً، اتساع رقعة المعارضة داخل البرلمان، التي وإن اختلفت منطلقاتها، لكن كل طرف عمل من جهته على حشر "النهضة" في الزاوية وإثبات عجزها عن إدارة الشأن العام. وهو ما جعل المراقبين يتساءلون: هل سيتمكّن الجملي من تمرير حكومته، أم أنها ستكون أول حكومة في مرحلة ما بعد الثورة يتم إسقاطها في البرلمان؟

أيام قليلة ويعرف التونسيون مصير هذه الحكومة التي ستعرض على التصويت يوم الجمعة المقبل. استعدت حركة "النهضة" لمواجهة سياسية صعبة، لهذا أجلت جلسة البرلمان أسبوعاً كاملاً لتتمكن من توحيد موقف نوابها، ومن جهة أخرى حتى تتمكن من نسج تحالفات مع بعض الكتل للحصول على الحدّ الأدنى من الأصوات. هناك توقّع بأنّ الحكومة ستمرّ، وأن رئيسها قد يضطر إلى تعديل بعض أعضائها، لكنها في كل الاحتمالات ستكون أول حكومة مهددة بالسقوط في أي لحظة.

المساهمون