تعود قضية استحقاقات الثورة في تونس، وفي مقدمتها قضايا الضحايا والجرحى، إلى الواجهة مع اقتراب ذكرى رحيل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، في 14 يناير/كانون الثاني 2011. خمس سنوات مرّت وعائلات الضحايا والجرحى ترابط في المحاكم العسكرية، بانتظار حكم قضائي يعيد حقّ الضحايا، غير أن الأمر يبدو صعباً، مع إلغاء رئيس الحكومة الحبيب الصيد، في آخر تعديل وزاري، "كتابة الدولة" (مؤسسة وزارية) للضحايا والجرحى.
وتنتشر بهذه المناسبة صور ضحايا "ثورة الياسمين" على مواقع التواصل الاجتماعي، لتثير مرة أخرى مسألة الإبقاء على قضاياهم لدى القضاء العسكري، رغماً عن قانون "العدالة الانتقالية". وينصّ القانون المذكور على "وجوب بعث دوائر مختصة للنظر في تلك القضايا"، خصوصاً أن هناك أحكاما قضائية أصدرتها المحاكم العسكرية في السنوات الخمس الماضية، اعتُبر بعضها "مخجلاً" وبمثابة "رصاصة ثانية في صدور الضحايا"، بينما اعتُبرت أخرى "منصفة".
ويقتصر الأمر على الحملات الموسمية، بل إن حملات التنديد ببعض الأحكام لم تتوقف على امتداد السنوات المنصرمة، فضلاً عن تواصل الاعتصامات أمام المحاكم العسكرية للضغط عليها، حتى لا تصدر أحكاماً رحيمة ضد الذين أصدروا الأوامر بقتل المتظاهرين ومن نفّذها ومن يتحمّل مسؤوليتها السياسية.
وخلال الأشهر الأولى بعد الثورة، اختصرت السلطة السياسية (حكومة الباجي قائد السبسي، ثم حكومات الترويكا)، قضية الضحايا والجرحى في جهة التعويض المادي فقط، وغضّت الطرف عن المحاسبة والمساءلة. وحوّلت الأنظار إثر ذلك إلى التعويضات المالية كمحور اهتمام أول، لكن عدم تحديد قائمة رسمية ونهائية للضحايا والجرحى، أفضى إلى تطبيق فوضوي وارتجالي لقرار التعويض، جعله محل انتقادات واتهامات بالتلاعب بالقائمة وتعويض غير المستحقين.
اقرأ أيضاً: المعارضة التونسية تقاطع احتفالات الثورة "الرسمية"
وقد اعتبر "المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، أن "تونس قطعت شوطاً هاماً في مسار العدالة الانتقالية، عن طريق سنّ القوانين المتعلقة بها، التي تنصّ على محاسبة مرتكبي الانتهاكات، من قتل وتعذيب وترويع وفساد مالي وغيره في حق التونسيين، ثم تعويض المتضررين، فردّ الاعتبار، وأخيراً المصالحة وتخصيص لجنة عليا لذلك، وهي هيئة الحقيقة والكرامة".
لكن هذا المسار بدوره وُلدَ أعرج وفقاً للمركز، فالأعضاء تم اختيارهم بحسب ولائهم السياسي بنظر البعض، وهو ما ولّد صراعات داخلها، شلّ مفاصلها. كما أن بعض الأعضاء، من المتضررين، لا تنطبق عليهم صفة الحياد تجاه النزاع، ما نتج عنه خلافات ومواجهات مع السلطة السياسية القائمة حالياً. وبقيت الهيئة تبعاً لذلك غير قادرة عن العمل والتحرّك، وتكدّست بذلك الملفات على رفوفها.
وتكمن أشدّ المعضلات وطأة على عائلات الضحايا والجرحى، في صدور أحكام قضائية وصفوها بـ"المخففة وغير المعقولة" بحقّ قتلة أبنائهم. في البداية، في الطور الابتدائي، صدرت قرارات قضائية تحكم بالسجن لـ20 عاماً، لكنها سرعان ما استؤنفت لتُمثّل الأحكام صدمة للعائلات وللرأي العام أيضاً. وفي 12 أبريل/نيسان 2014، قضت المحكمة العسكرية بأحكام تتراوح بين خمس وثلاث سنوات، في قضايا ضحايا وجرحى الثورة في تونس الكبرى (محافظة تونس العاصمة والمحافظات المجاورة لها منوبة وأريانة وبن عروس)، والقصرين (وسط غرب)، والكاف (شمال غرب البلاد)، ومحافظتي القيروان وصفاقس (وسط وجنوب البلاد)، وغيّرت التهم المنسوبة للمتورطين (من بينهم وزيرا الداخلية زمن الثورة رضا قريرة وأحمد فريعة)، إلى "قتل وجرح على وجه الخطأ". مع ذلك، قدّمت هيئة الدفاع من جديد، طلبات لنقض الحكم وإعادة تكييف القضايا كـ"قتل عمد".
ويشير جريح الثورة، مسلم قصدالله (أُصيب خلال أحداث الثورة، وبُترت ساقه اليمنى ولا تزال حال ساقه اليسرى حرجة) في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "قضيته كيّفت قانونياً كضربٍ على وجه الخطأ، ونال المتورطون عقاباً لا يتجاوز الثلاث سنوات سجناً قضوها وعادوا لحياتهم العادية". في حين فقد هو إحدى ساقيه وأجرى عشرات العمليات في ساقه الثانية، على أمل أن تسلم من البتر.
ويضيف أن "لا ثقة لي بالقضاء العسكري ولا بالدوائر المختصة التي ستنشأ، وحتى أن ما يروّج حول التعويضات يُعدّ مغالطة، إذ لم يتم تعويضي واقتصرت الإجراءات المتخذة في حقي، على تعييني حارساً على مبيت جامعي، وهو ما يتطلّب مني قوة وجهداً لم أعد أمتلكهما".
جهاد مبروك، ناشط شاب أصيب بطلق ناري خلال أحداث الثورة، تحدث عن مآل قضيته لـ"العربي الجديد". ويقول مبروك، إن "هناك قضيتين تتعلقان بإصابتي خلال الثورة. الأولى تتعلق بالاستهداف بالرصاص، سُجّلت ضد مجهول وأُقفل ملفها من دون إعلام المحامي القائم بالقضية أو استدعائه للتحقيق. أما الثانية فمتعلقة بالتعويض على السقوط الحاصل نتيجة الإصابة، إذ لم تتم إحالتها أصلاً إلى المحكمة".
ووفق تقييم محامية الدفاع في عدد هام من قضايا الضحايا والجرحى ليلى حداد، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، فقد اعتبرت أن "القضاء العسكري يُعدّ جزءاً من الآليات التي تمّ بها إفراغ الملف من مضمونه الأصلي، وهي محاسبة المتورطين في القتل".
وتُبرز حداد أن "طول نشر القضايا في طورها الأول لإيهام الرأي العام الوطني والدولي، بأن هناك محاسبة حقيقية عن طريق إصدار أحكام في جميع القضايا بعقوبات سجنية تصل إلى 20 عاماً، مع إبقاء الكثير في حالة إيقاف. لكن ذلك سجّل انحرافاً خطيراً في الطور الاستئنافي، إثر الحكم بعدم سماع الدعوى أو تغيير التكييف القانوني من القتل العمد إلى القتل على وجه الخطأ أو الاعتداء بالعنف، ناجم عنه الموت في مجمل القضايا، وإطلاق سراح جميع المتورطين في القتل. وكرّست بالتالي المحكمة العسكرية بأحكامها، الإفلات من العقاب وعدم المحاسبة، فضلاً عن وجود إرادة سياسية تريد طي الملف". وتُضيف حداد أن "القضاء العسكري أثبت أنه لا يمكن أن يكون قضاءً ضامناً لمحاكمة عادلة، ويبقى قضاءً استثنائياً. لقد كان من الواجب سحب القضايا منه وإحالتها للدوائر المختصة التي تأخر إرساؤها".
وتُفسّر حداد ذلك بـ"محاولة قطع الطريق أمام كشف الحقيقة، التي انطلقت بتأخير وضع قانون للعدالة الانتقالية واختيار هيئة خاضعة للمحاصصة السياسية (هيئة الحقيقة والكرامة)، والتي تعاني اليوم من تجاذبات داخلها، مما أثّر كثيراً على مصداقيتها. أما في ما يخصّ الدوائر المتخصصة، فلم يتم تركيزها إلا بعد صدور الأحكام بالتعقيب، والتي نقضت جميع الأحكام الاستئنافية العسكرية".
من جهتها، توضح المحامية نجاة العبيدي المكلّفة بعدد من ملفات الضحايا والجرحى أيضاً، لـ"العربي الجديد"، بأن "هناك توجّهاً لتكميم الأفواه ومضايقة المحامين المكلفين بهذه الملفات. ووُجّهت تهم عديدة لهم أمام أنظار المحاكم، من بينها إهانة القضاء العسكري وتقديم تصريحات إعلامية تنتقد سير القضايا ونزاهة الأحكام". وتتجه هيئة الدفاع في هذه القضايا إلى تدويل القضية، علاوة عن خوضها عدة تحركات لتحذير الرأي العام التونسي بضرورة التحرك للحسم فيها والضغط من أجل المحاسبة.
اقرأ أيضاً الغنوشي بمؤتمر نداء تونس: يغازل السبسي ويدعو لتجاوز الأحقاد