يُمثّل موضوع الهجرة أحد أبرز المواضيع التي تفرض نفسها متى كان الحديث متعلّقًا بالشّباب. ورغم غياب أرقام رسميّة دقيقة حول عدد الحالمين بالهجرة أو حتى الذين هاجروا، خصوصًا مع وجود جانب مهم من الهجرة غير الرسميّة، يكفي أن تُقلّب مضامين الأغاني الرّائجة شبابيا لتلتقط تلك الرّغبة المحمومة في ركوب البحر أو الغيم نحو بلاد أخرى قد تسع الأحلام الموءودة.
ورغم الاهتمام المُتزايد بالهجرة غير النظامية أو الهجرة السرية من طرف مراكز صنع القرار الغربي خاصّة، ثمة جانب آخر من الهجرة مسكوت عنه وهو هجرة الأدمغة. هجرة تتعلّق بكفاءات لم تقدر أنظمتنا العربية المُختلفة على توطينها في بيئتها الأم، في زمن تُعاني فيه دولنا تخلّفًا معرفيًا وتقنيًا يحتاج منا عملًا مُركّزًا ومُضاعفًا من أجل الالتحاق بالرّكب الذي ابتعد، ويحتاج إلى كل عنصر ألمعي مُتميّز في مجاله حتّى يكون في طليعة قوى الإصلاح والتغيير.
بعيدًا عن التّنظير الأكاديمي الجاف في تناوله لبعض الظّواهر، وهجرة الأدمغة إحداها، نُسافر عبر هذا الموضوع إلى الولايات المُتّحدة الأميركية، ومنها نحو ألمانيا، ثم نحط الرّحال في فرنسا، لنستمع لحكايات أدمغة مُهاجرة.
مشاريع مؤجّلة
مهدي حمدي، شاب تونسي يبلغ من العمر 28 سنة، درس في كلية العلوم هندسة الكمبيوتر، قبل أن يلتحق بإحدى كُبرى شركات نظم المعلومات في الولايات المُتّحدة التي تظلّ من أكثر الوجهات المرغوب فيها لدى الشباب العربي. يقول إن الصّدفة وحدها كانت وراء تجربة الهجرة وبأنّها لم تكن ضمن خطّة سابقة:
"نجحت في الوصول إلى مرحلة نهائية في مسابقة عالمية. ووجدت في سان فرانسيسكو ما افتقدته في تونس. ثلاث كلمات أغرتني بالبقاء في أميركا؛ الكرامة والتقدير والتشجيع. إلا أن قائمة الأولويات تغيرت مع الوقت وصار همي الوحيد هو الاحتكاك بالخبرات العالمية والتميز في بيئة محفّزة". وحول ما إن كانت هجرته مرحلية أم دائمة، يقول مهدي إنها لن تطول وإن العودة إلى تونس هي حلم يصبو إليه منذ سنين.
يُتابع: "رجوعي لا يتطلب أي شجاعة أو محفزات. أنا لا أؤمن بالدولة والأنظمة؛ إيماني الوحيد هو بالتونسي الذي قد يُساهم في رجوع الكفاءات إلى بلدها، وأطمح أن يتحقّق ذلك بوجود مشروع وطني حقيقي يستحق المُحاولة. الثورة كانت حلمًا دفع العديد من الأدمغة للعودة إلى تونس، إلا أن الواقع المتأزم والفرقة وفقدان ذلك المشروع الجامع الذي يلتف حوله الجميع، جعل العديد منهم يفكر في الهجرة من جديد".
الأطبّاء إلى ألمانيا
من الهندسة نحو الطّب، إذ تُعتبر ألمانيا اليوم إحدى الوجهات المُفضّلة للأطبّاء الشّبّان، وهي المعروفة بطلبها المُتزايد على الأطبّاء الأجانب؛ إذ كشفت المجلّة الطّبية الألمانية في إصدار سنة 2013 أن عدد الأطبّاء الأجانب المُباشرين في المُستشفيات الألمانية تجاوز عتبة 15000 طبيب.
قابلية السوق الصّحيّة الألمانية على الاستيعاب ليست المُبرّر الوحيد؛ بحثنا في الموضوع ووجدنا أن القوانين المُنظّمة لمهنة الطب في هذا البلد تُمكّن الأطبّاء الشبان المتخرّجين من أنظمة تعليمية مُعترف بها أوروبيًا من الدّخول إلى مرحلة التّخصّص ومُعادلة شهاداتهم بشرط إتقان اللغة الألمانية.
يقول ياسين الفهري، وهو طبيب تونسي يشتغل مع إحدى المُنظّمات الصّحّية الدّولية، إن ألمانيا اكتسبت هذه الجاذبيّة لأن النّظام التعليمي العربي، وتونس مثال، لا يُتيح لجميع الأطبّاء الانتقال من الطّب العام نحو التّخصّص؛ إذ يتم انتقاء ربع الأطبّاء الذين أنهوا دراستهم فقط من أجل مواصلة تعليمهم في طب الاختصاص، في حين أن الهجرة نحو هذا البلد تفتح المجال من أجل تحقيق الحلم الذي يُرافق كل طبيب شاب.
وكشف ياسين، في حديثه لـ "الجيل"، أن الآفاق في الطب العام محدودة جدًّا (والمعني بها ثلاثة أرباع المُتخرّجين من كليات الطب سنويًا في تونس كمثال)، وفق تقييمه، حيث يتم إغلاق 200 عيادة طب عام سنويًا؛ ما يجعل من الحلم نحو إكمال الدّراسة في طب الاختصاص أمرًا طبيعيًا لدى الأطبّاء الشّبان، وتكون بذلك ألمانيا سبيلًا نحو تحقيق هذا الحلم، الذي ينضاف لأحلام أخرى يتقاسمها كل الشباب كالعيش في أوروبا.
ويُشير الفهري إلى أن هذه الظاهرة بصدد التوسّع حيث تشهد مدارس اللغة التابعة للمركز الثقافي الألماني إقبالًا شديدًا من طرف الأطبّاء الشبان، وهو ما يُنذر بتواصل نزيف هجرة الأطبّاء نحو هذا البلد الأوروبي الذي تُشير الدّراسات إلى أنه يُعاني من نقص يقدّر بـ 50 ألف طبيب، والذي لا يجذب نحوه الأطبّاء التونسيين فقط، بل أيضًا الجزائريين والفلسطينيين والمصريين.
نُهاجر بحثاً عن المُستقبل
ومن ألمانيا إلى فرنسا، تحديدًا مدينة نيس، حيث نلتقي بالشابة هاجر بركوس، وهي تونسية إيطالية، وُلدت في إيطاليا وأتمّت في تونس تعليمها الابتدائي والثانوي، قبل أن تُعيد السفر إلى فرنسا لتتم دراستها الجامعية.
تقول هاجر: "منذ صغري وأنا لا أنعم بحياة مستقرة، ولدت في إيطاليا في مدينة تبعد حوالي خمسين كيلومترًا عن الحدود الفرنسية حيث كان يشتغل والدي الذي كان ممنوعًا من السفر إلى تونس لأسباب سياسية. في البداية، قرّر والداي أن أزاول وإخوتي تعليمنا في إيطاليا، لكنهما غيّرا رأيهما واختارا أن نعود إلى تونس باستثناء والدي الذي كنا نزوره أثناء العطلة الصيفية".
وروت هاجر الفوارق التي تحسّستها خلال دراستها بتونس، خصوصًا على مُستوى المناهج التعليمية وأيضًا على مُستوى البيئة المدرسية، مُقارنات دفعتها لأن تُهاجر مرّة أخرى لفرنسا بعد نجاحها في امتحان الباكالوريا.
هاجرت هاجر وفي ذهنها يقين بألا مُستقبل للشباب في تونس، خصوصًا في ظل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهاجرت رغم أن الغربة لم تكن سهلة فهي تواجه صُعوبات في إيجاد عمل مع ارتدائها الحجاب.
تُضيف: "على المستوى البعيد، نعم أظن أن تونس تحتاج أبناءها، لكن لطالما أردد بيني وبين نفسي أن ما ينقصنا في بلدنا هو ثورة في العقول، في طريقة التفكير، في احترام المواعيد، في التفاني في العمل في الابتعاد عن كل ما هو مبتذل".
تتابع: "نعم سأفكر في العودة إلى تونس عندما يتم تطبيق القانون على الجميع وعندما يكف المدرس عن التمييز بين التلاميذ وعندما يحترم السائق إشارات المرور وعندما تعامل المرأة معاملة حسنة وعندما لا يهضم حق المستضعف، بينما يحظى الأغنياء بكل ما يريدونه".