تونس.. خصومة وزير مع طبيب

07 يناير 2016

وزير الصحة التونسي سعيد العايدي (أنترنت)

+ الخط -
عندما يقرأ المرء السيرة الذاتية لوزير الصحة التونسي، سعيد العايدي، يمكنه أن يفهم طبيعة الخصومة التي افتعلها مع أحد مرؤوسيه، وما أثارته من لغط إعلامي، إثر زيارته إلى ولاية سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية، وترؤسه مجلساً جهوياً بشأن القطاع الصحي، في 23 ديسمبر/كانون أول الماضي، فالمعطيات المنشورة على موقع الموسوعة الحرّة، ويكيبيديا، عن تجربته تبيّن أنه مهندس متخرّج من مدرسة البوليتكنيك الفرنسية، اشتغل في شركة IBM العالمية، قبل أن ينشئ شركة خاصة به في المجال نفسه، ليتولى بعد ذلك الإدارة العامة لشركة متخصصة في البرمجيات.
تلك تجربة الرجل العلمية والمهنية بين 1982 و2011، قبل أن تقذف به رياح عاتية اتجاهها إلى وزارة التشغيل في الحكومات، الأولى والثانية والثالثة، لما بعد الثورة التونسية. لم تذكر المعلومات الشحيحة المتوفّرة حول وزير الصحّة وضعه كتُبا أو مؤلفات أو مقالات ذات طبيعة إنتلجنسية فكرية وفلسفية وإبداعية أو معرفة أو علماً أو شهادة جامعية أو خبرة أو دراية بمجال الصحة، ولم تشر إلى أي علاقةٍ، مهما كان نوعها بعالم السياسة وبدهاليزه وإكراهاته وصعوباته وتضحياته ومعاناته، فالرجل لم يكن، في أي يوم، مناضلاً، بالمعنى الثوري والراديكالي والأيديولوجي، من داخل العائلات السياسية المناضلة تقليدياً، ودفعت الضريبة غالية في أزمنة الاستبداد والقمع والقتل والتشريد، قومية كانت أو إسلامية أو يسارية أو حتى ليبرالية. ولم يكن كذلك مناضلاً في المجال النقابي، أو ناشطاً في المجالين الحقوقي والإنساني أو الخيري، ضمن تشكيلات المجتمع المدني والأهلي. ولم يباشر أي عمل حزبي أو سياسي، حتى من داخل أروقة حزب التجمع الدستوري الذي كان حاكماً، ما قد يمكّنه من فهم ما جرى ويجري من حوله من أحداث وتغيرات، يصعب أن يفككها بسطاء القوم الذين تعوزهم النظرية والبراكسيس السياسيين.
كان وزير الصحة التونسي، في عالم السياسة والأفكار، نسياً منسياً، وفي ميدان الصحة لا يعرف شيئاً منه، هذا الحقل المعقّد الذي تُباشر فيه أعتى المؤامرات الدولية على حياة الشعوب الغضّة الطرية العود، وتستدرج لتكون لقمة سائغة لدى عصابات الاتجار بالبشر وبمصائرهم. وهو أبعد ما يكون عن معرفة ما يحاك ضد القطاع الصحي العمومي من الشركات والقوى المستثمرة في هذا المجال، والمتحكّمة في مصائر ملايين البشر في بلدنا، وفي خارجه.
ولا أعتقد أن الأشهر القليلة التي قضاها الوزير على رأس وزارة التشغيل سنة 2011، أو وهو متجول بين حزبي الجمهوري ونداء تونس، مكّنته من فهم ما يدور حوله في قطاع
الصحة، الحساس والاستراتيجي والمعقّد والمتداخل الرهانات والمصالح والصراعات المعلنة والخفية، والموضوع برمّته على لائحة القطاعات المدرّة للأموال، عظيمة الاستثمار التي تخاض من أجلها المعارك والصراعات الاقتصادية الدولية الكبرى، وتدق لأجلها طبول الحروب. لذلك كله، لم يكن لزياراته الميدانية والمكوكية المفاجئة (المعدّة سلفاً) أثر كبير على مجال الصحة المتفاقم المشكلات والمآسي، بل يزداد الأمر وجعاً بعد كل زيارة يقوم بها حتى بلغ الهمّ مبلغه بموت الحوامل في أثناء الولادة بالجملة في عهده السعيد، بعد أن ظننا أن مثل هذا الأمر ذهب إلى غير رجعة، مع عهود غابرة، وأننا لم نعد في المستوى الصحي نفسه لشعوب إفريقية وآسيوية، كنا نصمها بالتخلف والبدائية، فإذا بها تفوقنا تقدماً وترتيباً في التصنيفات الصحية الدولية. وهذا شأن بات عادياً، يذاع يوميا في وسائل الإعلام، لأن الوزير المؤتمن على الأمن الصحي للتونسيين هو الغريب الوحيد بين أهل الدار، لا يستطيع أن يفكّ شفرة ما استعصى من لغتهم الفنية وخبراتهم العلمية والتكنولوجية والطبية التي تستوجب أن يسوسهم رجل يشبههم.
كان على السيد الوزير ألا يتهافت على هذه الوزارة بالذات، لأن إدارتها تستوجب ألا يكون الوزير أقل شهادة جامعية من منظوريه، فهم من الدكاترة – الحكماء، ومن أساتذة الجامعة والمحاضرين والمبرّزين، الأطباء، بينما هو مهندس في اختصاصٍ أبعد ما يكون عن مجال الصحة والطبّ، من دون أن يكون في ذلك معايرة لشهادة الهندسة التي حصل عليها، فهي مرجعية مهمّة في عوالم ومجالات أخرى. وبعد ذلك وليس قبله، لا بد لوزير الصحّة أن يكون عارفا متمرّساً بمجال السياسة، ومسالكه الوعرة وحساباته الدقيقة والعسيرة.
ما كان للوزير أن يسقط في صراع جانبي وهامشي مع طبيب من آل البيت الصحي، ينشر منافعه الطبية وخدماته الجليلة يومياً، على مرضاه من الفقراء المعدمين الذين افتقدوه، وفقدوا تفانيه في خدمة أهله في الأرض البوزيدية، المنسية الموعودة بالجنة التي بشّر بها وأوهم حزب السيد الوزير، من دون أن يتجاوز ذلك الكلام المباح.
كان على الوزير أن يصغي للطبيب الحكيم، وينصت لما يقوله، وينتبه ويتعلّم منه، فهو يعلم عن المشكلات الصحية لجهته ما لا يعلمه هو، ولم يسمعه من قادة وزارته ومستشاريه الذين يعرفون كيف يخفون حقائق الأمور، ويزيّنون قبيحها، لتظهر أمام رئيسهم في أبهى حلّة. ومهما كانت حدّة كلماته أو "بذاءتها" فلا تستدعي الإيقاف عن العمل، في حركة استعراضية تسلطية، فتلك الكلمات أقلّ صعقاً وقبحاً وجريمة وموتاً من واقع القطاع الصحي العمومي المتهالك المتآكل ومستشفياته التي ما عادت مشافي، وإنما باتت تحمل بعض صفات المقابر.
وفي كلّ الأحوال، فإن صيحة الطبيب الحكيم في وجه وزير الصحة، بما فيها من كلمات نابية، جرحت كبرياءه أمام مرؤوسيه والكوادر الجهوية، لا تضاهي الوعود الزائفة التي أطلقها الوزير في حملته الانتخابية في انتخابات سنة 2014 التشريعية، لينال بها ثقة المواطنين من أمثال الطبيب وكل الطيّبين. والسيد الوزير لا يمكنه أن ينتصب داعية أخلاقياً في وجه الحكيم، فهو سليل حزبٍ بلغ من السقوط الأخلاقي والصراعات والتشويه والأقاويل والعنف اللفظي والمادي مبلغه، وهو غير جدير بإعطاء الدروس في المعاملات والسلوكات والإنسانيات والتزام القانون. أما هيبة الدولة فليست سوى كلمة، لأن انتهاكها من وزراء الحكومة التي ينتمي إليها الوزير يتمّ بإمعان. وللتذكير، كان وزير دولتنا للصحة يرقص على أنغام الطبلة والمزمار في احتفال أقيم بمناسبة ذكرى تأسيس حزبه في قصر الرياضة في المنزه، عشية سقوط عشرات القتلى والجرحى الذين غصّت بهم المستشفيات العمومية في حادثة القطار، يوم 16يونيو/حزيران الماضي، في تخوم مدينة الفحص في الشمال التونسي.
لم يصطدم وزير الصحة، هذه المرّة، بمتطفل عن القطاع، أو بتاجر من تجّاره، يبحث عن مجد شخصي، أو عن مصلحة خاصة، واستثمار وثراء، وإنما يصطدم برجل من أهل القطاع، يفوقه علماً طبياً، ودراية ميدانية، وتضحية يومية، وبمناضل تربى يوماً في الحركة الطلابية التونسية، المدرسة ذات الرصيد النضالي العريق التي ناضل خريجوها، وقدّموا التضحيات من أجل أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن أجل الحياة الكريمة للجميع، وتكافؤ الفرص والعدل والقسطاس، والدفاع عن الحق ونصرة الفقراء والمحرومين والوقوف في وجه الحكّام الجائرين، ومقاومة تعسّف المتعسّفين.