ولعل شهر العسل التونسي الأميركي كان قد انطلق بعد الثورة مباشرة، عندما دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما الكونغرس إلى الوقوف إجلالاً للثورة التونسية، ليتلو ذلك لقاءان مهمان ووديان بين الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ونظيره الأميركي، أولاً خلال مشاركتهما في قمة دوفيل في فرنسا ولاحقاً في واشنطن، انطلقت معهما رحلة طويلة من الدعم الأميركي لتونس. وكان من ثمار هذا الدعم اختيار تونس حليفاً استراتيجياً لحلف شمال الأطلسي وضمان قرض ائتماني بقيمة 500 مليون دولار. يضاف إلى ذلك توفير دعم عسكري هام لحماية الحدود ومكافحة الإرهاب، بما في ذلك التدريبات على الطائرات من دون طيار أخيراً، في انتظار الطائرات المتطورة جداً التي اقتنتها تونس التي يرتقب أن تتسلمها في العام المقبل. وينتظر أن تحدث هذه الطائرات فارقاً كبيراً جداً في مراقبة تونس لحدودها ولجبالها التي يتحصن بها مسلحون متشددون. ويُضاف إلى ذلك ما تنتظره البلاد من دعم أميركي في قمة الاستثمار نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي وتوقيع اتفاقية التبادل الحر.
وتساهم جميع هذه الأسباب في جعل مخاوف تونس منطقية ومبررة، خصوصاً أنها لم تلق الدعم نفسه، وفي فترة حرجة، من حلفائها التقليديين في أوروبا. وقد دفعت هذه الهواجس الرئيس التونسي إلى التذكير في رسالة التهنئة التي وجهها إلى الرئيس الأميركي المنتخب، بـ"وقوف الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب تونس في مسارها الانتقالي". كما لم يغفل التأكيد على يقينه بأن الشراكة الاستراتيجية وعلاقات الصداقة الموجودة منذ أكثر من مائتي عام ستزداد متانة ورسوخاً "بفضل دعمكم ومساندتكم للتجربة التونسية الرائدة، على درب ترسيخ الديمقراطية وتثبيت مقومات الدولة الحديثة وفقاً للمبادئ والقيم التي نتقاسم الإيمان بها... وجهود محاربة مختلف مظاهر التطرف والإرهاب...".
ولم تفلح تطمينات السفير الأميركي في تونس، دانيال روبنشتاين، في تهدئة المخاوف التونسية على الرغم من تأكيده في تصريح صحافي أن "هذه العلاقات ستبقى متينة، بقطع النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية". ومن بين الرسائل التي حرص السفير على توجيهها إشارته إلى أن الولايات المتحدة ستواصل "دعم أصدقائها وحلفائها التونسيين"، وأن "سياسة بلاده الخارجية لم تتغير عبر التاريخ، من إدارة إلى أخرى، لأنها غير متحزبة".
ويخيّم نوع من التخوف على الخيار السياسي في تونس، القائم على التحالف مع حركة النهضة، والذي يشكل عَصب الاستقرار التونسي، بالنظر إلى ما أطلقه ترامب ومستشاروه من سهام تجاه الإسلام السياسي والإخوان المسلمين والمنطقة العربية والإسلامية عموماً، والمسلمين الأميركيين أيضاً.
وألقت شعارات ترامب الانتخابية بظلالها على حركة النهضة، التي أصدرت تهنئة غير تقليدية دبلوماسياً حاولت خلالها أن تطمئن المتخوفين من أنصارها أولاً واعتبرت "أن خطاب المرشّحين في السباق الرئاسي (ترامب والمرشحة الديمقراطية الخاسرة هيلاري كلينتون) تمحورت في الأساس حول قضايا الداخل الأميركي في مجالاته المتعددة، في حين لم يمثّل الخارج وما يتعلق به من سياسات كبرى ومواقف وتحالفات محوراً بارزاً ومجالاً كبيراً للتناظر والخلاف بين المرشحين، باعتبار أن ضبط هذه المسائل الاستراتيجية تتولّاه بالأساس المؤسسات بناءً على المصالح القومية الأميركية العليا في العالم".
وذكّرت "النهضة" في نص التهنئة بـ"أن بين تونس والولايات المتحدة الأميركية مصالح مشتركة تجب رعايتها وأنّ للرئيس المنتخب مجالاً مهماً في هندسة إدارة المصالح الأميركية في العالم وفي توجيه السياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً فيما يتعلّق منها بشعوب وقضايا العرب والمسلمين في اتجاه إرساء السلام ودعم تحرك هذه الشعوب نحو الحرية وبناء الديمقراطية وتحقيق التنمية في بلدانهم".
لكن زعيم الحركة، راشد الغنوشي، الذي سبق أن احتفت به مؤسسات أميركية عديدة في عهد الديمقراطيين، ونوَّهت بالتغيّرات التي طرأت على حركته، لم يتردد في أن يكون أكثر وضوحاً وصراحة يوم الأحد الماضي خلال الجلسة العامة الانتخابية لكتلة الحركة في مجلس نواب الشعب.
اعتبر الغنوشي أن هناك تحولات كبيرة بالمشهد في تونس والعالم العربي وباقي دول العالم عموماً، وضبابية أكدتها الانتخابات الأميركية التي "فاجأت الجميع، ومن بينها الدولة العميقة في الولايات المتحدة التي راهنت على فوز كلينتون". وحاول الغنوشي أن يخفف من خيبة المراهنين على كلينتون، قائلاً إنه "لا كلينتون ولا ترامب حاملان للواء الإسلام أو الديمقراطية، فهذه الدول لها مصالحها... والمسار التونسي ليس في مهب الريح، ويتمتع بقدر من التأمين". وبرر وجهة نظره بقوله "وضعنا أنفسنا في مكان وسط، وبالتالي فإن التغيرات التي تحصل في العالم قد تؤثر، ولكن بشكل محدود، لأننا لسنا في معارك لا مع اليمين ولا مع اليسار".
لكن تطمينات الغنوشي وغيره تقوم أيضاً على فهم للأهمية الاستراتيجية لتونس، ولثوابت لا يمكن للقوى الخارجية والدول الكبرى أن تتغافل عنها. تونس كانت ولا تزال أساساً للاستقرار في منطقة الشمال الأفريقي، على الرغم من الخلافات الكبيرة بين الجزائر والمغرب. ويضاف إلى ذلك عراقة علاقات تونس مع الجنوب المتوسطي الأوروبي، والمفاوض الأهم والمبادر، في وضع اتفاقيات رئيسية بين شمال وجنوب المتوسط، وهي المنطقة الأكثر توتراً في السنوات الأخيرة.
كما لا يمكن إغفال الموقع الجغرافي لتونس الذي يمثل نقطة استراتيجية في المتوسط، تشرف عليه شمالاً وشرقاً. كذلك تعتبر تونس بوابة أفريقيا الأولى التي تضعها كل الدراسات الاستشرافية في صدارة مستقبل الاستثمار في العالم. علاوة على ذلك، تعتبر تونس متنفس ليبيا الأول، والدولة الأكثر تأثيراً فيها بحكم الروابط التاريخية بين البلدين، وبحكم الرسم الجغرافي الذي يجعل من تونس عمقاً استراتيجياً لليبيا والعكس أيضاً. وهي عوامل دفعت الإدارة الأميركية للعودة بقوة إلى المتوسط، والالتفات لهذا البلد الصغير وتنافس أوروبا والقوى التقليدية عليه، ما خلق نوعاً من الريبة لدى أوروبا من ارتفاع الحضور الأميركي اللافت في السنوات الأخيرة.
لكن تونس بالخصوص تمثل اليوم الديمقراطية الوليدة في المنطقة، والحفاظ على هذا النموذج رهان أميركي وأوروبي سياسي مهم، وإن كان لمجرد التسويق، ولا يمكن ضربه أو حتى التغافل عن دعمه بسبب الإحراج الذي قد يمثله ذلك، وهو ما سعت تونس لاستغلاله في الفترة الأخيرة من خلال تصريحات رسمية لقياداتها في أوروبا تحديداً. وهي تمثل أخيراً نموذجا رئيسياً، تبحث عنه القوى الغربية لتحالف علماني إسلامي يمكن أن يشكل مثالاً للحد من التطرّف في بقاع أخرى من المنطقة العربية والإسلامية، مع كل ما يشكله من تهديدات للفضاء الغربي عموماً.