تونس.. المبادرات المواطنية والانتخابات المقبلة

27 يناير 2019
+ الخط -
انطلقت الحملة الانتخابية في تونس على أشدّها، وهي لم تبدأ بعد رسمياً. في مناخ هذه الحملة، كما رسمت ملامحه إلى حد الآن تنافس شرسٌ كثير لا يتورّع عن تجاوز قواعد اللعب التي هي في الأصل هشّة. 
يدرك الجميع من متنافسين وملاحظين، حقيقتين مربكتين، تفسدان على هؤلاء جميعا حساباتهم وتوقعاتهم المتفائلة عادة: الأولى أن هذه الحملة، ومهما كان حماس الفاعلين فيها وخططهم وابتكاراتهم لن تستطيع، إلا بكثير من المشقة، أن توسع دائرة المشاركة السياسية، في ظل تنامي العزوف عن الشأن السياسي والانتخابي بشكل خاص، في حين ينتظر من الانتقال الديموقراطي أن يوسع من دوائر المشاركة السياسية تحديدا. أما الحقيقة الثانية، فهي نفور الناس من السياسة وغضبهم من السياسيين، حكاما ومعارضةً، وصلا إلى حد الازدراء والتجريح في الذمم.
كانت نتائج هذه التقديرات، المجحفة أحيانا، وخيمةً، فقد سجلت الانتخابات التي عرفتها البلاد منذ 2014 انجرافا حادّا، مقارنة بانتخابات 2011 التي فازت فيها حركة النهضة وحلفاؤها آنذاك (الترويكا). وتعمّق هذا العزوف في الانتخابات البلدية التي شهدتها البلاد، خلال شهر مايو/أيار الفارط، فقد فقدت "النهضة" وحزب نداء تونس وحدهما ما يفوق مليونا وثمانمائة 
ألف صوت، ولم تعرف نسبة الإقبال سوى 33% من مجموع المسجلين.
وعلى الرغم من حملات الدعاية الحاثّة على التسجيل، فإن ما يفوق خمسة ملايين ومائتين وخمسين ألف مسجل من مجموع ثمانية ملايين، وهو الخزان الانتخابي العام، استجاب فقط. ولا يتوقع أن تشهد دورة التسجيلات الحالية أي جديد، وهي التي تنتهي آخر الشهر الحالي، في ظل شللٍ شبه تام، عطل أداء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بعد استقالة رئيسها، وتعطل ترميم الشغورات الحادثة في أعلى هياكلها، إذ تقدر الأوساط المعنية بأن ما يناهز أربعة ملايين من هؤلاء الناخبين "بالقوة" لم يبدوا الحماس الكافي للتسجيل، وهو ما يؤكّد، مرة أخرى، نفورا من السياسة والانتخابات تحديدا.
ظهرت في هذا المناخ عدة مبادرات مواطنية، أعلنت عن نفسها مبكرا، معتزمةً خوض هذا السباق الانتخابي، وهي تراهن على استثمار غضب الناس من السياسيين، والمتحزّبين خصوصا، من أجل جلب انتباههم أولا، والحصول على دعمهم وأصواتهم في الانتخابات المقبلة. وتلتقط هذه المبادرات عدة مؤشراتٍ حدثت تحديدا في الانتخابات المحلية الفارطة، من صعودٍ لافتٍ للانتباه للمستقلين، وهم الذين حلوا من حيث عدد الأصوات المتحصل عليه الأوائل متقدّمين على "النهضة" و"نداء تونس". ولعل أهم مبادرةٍ هي التي حدثت في ضاحية المرسى وأريانة معا، حيث فاز المستقلون بأغلبيةٍ ساحقةٍ، وهم محسوبون على النخب الحداثية اليسارية المرنة.
شجعت تلك النتائج المضي من أجل ابتكار بدائل جديدة من المشاركة خارج الأطر الحزبية، وتشكلت تلك المبادرات حول شخصياتٍ وطنيةٍ ذات إشعاع سياسي، تجمع بين من ناضل سابقا ضد نظام بن علي وناشطين سياسيين ومدنيين، إما غادروا أحزابهم، أو تمرّسوا بالعمل داخل الأوساط الجمعياتية والمدنية عموما بعد الثورة تحديدا. إلى الآن، يمكن اعتبار مبادرة "مواطنون" أهم مبادرةٍ أعلنت عن نفسها بشكل صريح، من خلال إسهامات عديدة مكتوبة عبر بيانات ومقالاتٍ سعت، في هذه المرحلة السـياسية، إلى التعريف بنفسها وتسليط الضوء على هويتها، من خلال المواقع الاجتماعية والتواصل والصحافة المكتوبة التي صدرت فيها جملة من المقالات، لعل أهمها مقال الجامعي، الطاهر اللباسي، وهو الذي كان ممن ساهموا من مواقع متقدّمة في الدينامية الانتخابية للمستقلين، في ضاحية المرسى المشار إليها. يأتي مقاله الذي عنوانه "مواطنون.. فلنعول على أفضل ما فينا"، ليعرّف بهوية المبادرة التي يعلن أنها جمعت "مجموعة من الناشطين والعاملين في الحقل النقابي والحقوقي والثقافي والبيئي والشبابي والنسوي والمدني عامة"، فالمنضوون تحت هذه المبادرة موزّعون على تلك الحقول المختلفة، غير أنهم التقوا لإحداث ما سمّوه "استفاقة شعبية تحاسب من تسبّب في الانهيار على جميع الأصعدة.. وهي التي تنشد في ذلك كله تخليق التعامل بين مختلف الأطراف السياسية فما "يجمعنا، نحن التونسيين، يتجاوز العقد السياسي إلى رابطٍ أخلاقيٍّ يحول دون إنتاج ما نشاهده اليوم من ممارساتٍ تشوّه العمل السياسي، وتنفر منه المواطن".
تختار هذه المبادرات عادةً موقعا وسطا يتصارع عليه الجميع، أي تلك المكانة الهلامية بين
 اليمين (الديني) والمنظومة القديمة، فهي كما ورد "تجمع كل من يرفض حصر اختياراتنا في المواعيد الانتخابية القادمة بين مشروع إسلاموي مقنع بالمدنية أو العودة إلى المنظمة القديمة، تحت شعار مواصلة المشروع الإصلاحي لدولة الاستقلال".
ضمنيا، تسكت هذه المبادرة وغيرها عن بدائل أخرى تقدّم نفسها للناخبين، وهي التي تستند إلى خلفيةٍ يساريةٍ، على غرار الجبهة الشعبية التي لها تمثيلية في مجلس النواب الحالية، وقد حلت بذلك في المرتبة الرابعة في الانتخابات المحلية الأخيرة. التي حازت فيها على ما يقارب 4% من الأصوات وقد حلت في المرتبة الرابعة.
توجّه جل المبادرات سهام نقدها إلى الأحزاب التي تحملها سيئات الوضع الحالي. لذلك اعتبرت مبادرة مواطنون "أن العمل صلب الأحزاب هو من صميم العمل السياسي، لكن وضع الأحزاب اليوم وفشلها في ممارسة الحكم الرشيد والمعارضة المسؤولة حتم استنباط طرق أخرى أكثر تشاركية...".
أسماء عديدة ذات ثقل اعتباري وأدبي حاضرة بقوة في هذه المبادرة من جامعيين وقضاة سابقين ومحاميين وإعلاميين. ولكن هوية هؤلاء الفكرية والسياسية تظل غير واضحة، خصوصا أنه لا شيء يجمعهم سوى طموحات جماعية وفردية مشروعة وآمال عريضة بجمهوريةٍ فاضلةٍ، يصعب أن تشكل أرضيةً صلبةً ورؤيةً جماعيةً لخوض انتخابات سياسية عسيرة على الجميع. كما أن خفوت صوتهم النقدي تجاه اليسار، خصوصا الراديكالي منه، يضفي عليهم بعض الغموض. علاوة على أنها، كمبادرة، لم تسلم من تشكيكٍ في استقلاليتها عن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، إذ يعتقد بعضهم أنهم خزّانه الانتخابي الاحتياطي، وحليف له، في حال قرّر خوض منافسات مقبلة.
ستكون مبادرة "مواطنون" وغيرها حاضرةً بشكل بارز في المشهد الانتخابي المقبل، خصوصا أنها اختارت أن تشتغل على شاكلة سباق الماراثون: بطء مستحب، مسافات طويلة، وعداؤون ذوو نفسٍ طويلٍ، في مضمارٍ فيه تضاريس وعرة كثيرة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.