03 أكتوبر 2024
تونس... الأمن والجدار مع ليبيا
بدأت أشغال إقامة الجدار الحدودي بين تونس وليبيا، وكان رئيس الحكومة التونسية، الحبيب الصيد، قد أعلن، أمام مجلس الشعب، أن قرار إنشاء الجدار الحدودي والخندق المائي قد اتخذ منذ 18 مارس/آذار الماضي. وإذا كان من حق أي دولة أن تتخذ الإجراءات الأمنية المناسبة لحماية أمنها، وإبعاد مخاطر الإرهاب عن شعبها، فإن قرار إنشاء الجدار على الحدود الليبية التونسية يثير أسئلة كثيرة عن نجاعته وقدرته الفعلية في الحد من العنف الذي تمارسه مجموعات متطرفة في تونس.
والمعروف أن عمليات العنف، في غالبها، حدثت على الحدود التونسية الجزائرية، والعمليات التي حصلت داخل المدن كانت نتاج تدبير فردي، باعتراف الحكومة التونسية نفسها، ما يعني أن إمكانية حصول أحداث عنف أخرى تظل واردة، حتى في ظل وجود الجدار الذي لن يكون ناجعاً بالصورة التي يتوقعها بعضهم، إلا في منع تهريب البضائع بين المناطق الحدودية، وتقتات عليها أعداد كبيرة من الناس.
ظلت مقاربة الإرهاب في تونس جزئية، تحاول معالجة الأعراض، ولا تقترب من الأسباب العميقة للظاهرة، فالمقاربة الأمنية على أهميتها لا تكفي وحدها لمعالجة جذور العنف والإرهاب في تونس، فإجراءات من قبيل إغلاق بعض المساجد، ومنع بعض الأئمة من الصعود على المنابر، أو مطاردة الجمعيات الخيرية، هي من قبيل استسهال الحلول في مقاربة ظاهرة لها جذور ودوافع تشكلت منذ زمن بن علي، فكيف يمكن أن نفسر أن تونس أكبر مصدر للمقاتلين في صفوف داعش في المنطقة العربية؟ وأن جل الشباب الذي يلتحق بجماعات العنف إنما هو من مواليد زمن التضييق الأمني على النشاطات السياسية، ومنع التيارات الإسلامية، واعتماد سياسة تجفيف منابع التدين؟ ألا يدفعنا هذا إلى البحث في المشكلات الهيكلية التي تساعد على تخليق مثل هذه المجموعات، وتمنحها الفرصة للاستقطاب وللاستمرارية. فالمشكلة تجد جذورها في قضايا التعليم والثقافة والإعلام والتفاوت الاجتماعي والفشل السياسي للأحزاب في الاستقطاب والتأطير.
فعلى الرغم من مرور سنوات أربع على الثورة لا توجد سياسة ثقافية واضحة في تونس، وإنما ظل المشهد الثقافي يراكم انتاجات استهلاكية، يروجها إعلام منفلت من كل القيم، ويبالغ في التركيز على قضايا الإثارة، من دون وجود ضوابط أو موجهات تحدد مساراته بصورة تخلق ردات فعل أخلاقية، وتهيء لدعاية مضادة تخدم الفكر الديني في صورته الأكثر تشدداً، وهو نفسه الذي نلاحظه في الخطاب الديني الذي يتم تسويقه في المساجد، ومن خلال المؤسسات الدينية العاجزة فكرياً وبشرياً، على أن تتحول الى مصدر للتنوير. أما التعليم، فقد ظلت الإصلاحات المفترضة تراوح مكانها في ظل صراع حاد بين سلطة الإشراف ونقابات التعليم بمراحله المختلفة.
وتساهم كل هذه العوامل مجتمعة في ازدياد أزمة الهوية التي تشق المجتمع التونسي، وتدفع جيلاً كاملاً من الشباب الى البحث عن ذاته، في رؤى وتصورات إيديولوجية، بعضها مغرق في الماضوية، وبعضها غاية في الانبتات المجتمعي. وكلا الطرحين لا يساعد على التأسيس لاستقرار اجتماعي. فتحصين المجتمعات لا يكون عبر مضاعفة القوى الأمنية، أو المبالغة في الإجراءات التعسفية التي قد تمس الحريات وتنتهك الخصوصيات، أو المبادرة إلى إغلاق بعض القنوات التلفزيونية، أو الإذاعات الدينية، أو التعامل مع القوى السلفية، وكأنما هي اتجاه واحد، لا تشقه تناقضات ولا يعرف الاختلافات، وإنما من خلال إيجاد سبيل إلى بناء توافق اجتماعي، حول سبل محاربة الإرهاب بالطرق الأكثر نجاعة واستمرارية، وبناء هوية وطنية لا تتنكر للتاريخ أو القيم أو للماضي، من دون أن تغرق فيه، أو تفقد تواصلها مع الراهن العالمي، بتطوراته المختلفة.
لن يكون قرار إنشاء جدار عازل بين تونس وليبيا ضامناً للأمن، أو علامة على قرب نهاية حلقة الإرهاب الجهنمية، بقدر ما هو محاولة للسيطرة على وضع حدودي منفلت، قائم على تهريب البضائع والأفراد، أما الأفكار ووسائل الأدلجة والتعبئة التنظيمية، فإنها تسلك طرقاً أخرى، غير التي يقطعها الجدار، وتجد سبيلها لتنمو وتتطور في ظل فشل سياسات التنمية غير المتوازنة، ونظام تعليمي فاشل، لا يبدع إلا في تخريج طوابير العاطلين وإعلام مهيمن، يقوم على التهريج وترويج التفاهة وتسطيح العقول.
المعركة مع الإرهاب طويلة وشاقة، ولا يمثل الجانب الأمني فيها سوى الجزء الظاهر من الصراع، لكن الجوانب الأخرى الأكثر أهمية تحتاج إلى عملية إصلاح شامل، ومراجعة واجبة للبنى الثقافية والفكرية السائدة وإعادة إنتاج خطاب ديني وثقافي، قادر على الإقناع، ولا يكون هذا بغير مزيد ترسيخ المسار الديمقراطي، والتأكيد على أولوية الحريات، وتوسيع مجالاتها، وليس التضييق في هوامشها، فلعبة الإرهاب تكمن، أساساً، في المبارزة، أولاً، عبر الخطاب بالصورة التي تجعل القوى التي تجنح نحو العنف، تجد نفسها في عزلة داخل المجتمع، لأنها في خصومة معه، قبل أن تكون في خصومة مع الدولة، أو مع المنظومة الأمنية.
بقي أن نشير إلى أن غموض تركيبة هذه التنظيمات الإرهابية، وحالة الاستقطاب التي عرفتها من خلال ضم عناصر مشبوهة كثيرة (بعض مجرمي الحق العام ومروجي المخدرات)، مع ما يمكن أن يحصل فيها من اختراقات، تجعل أعمالاً كثيرة منسوبة إليها تصب في خدمة أجندات الثورة المضادة، في أحيان كثيرة، ما يكشف، أحياناً، عن التقاء موضوعي بين قوى الإرهاب وقوى الثورة المضادة، من أجل إفشال مسار الانتقال الديمقراطي، بصورة تبعث على الاستغراب، وتدعو إلى التساؤل حول الأجندات الخفية التي تندرج ضمنها العمليات الإرهابية، وتطرح أيضاً على القوى الحزبية وعقلاء المشهد السياسي التونسي تحديات كبيرة، من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت منذ ثورة 14 يناير/كانون ثاني 2011، وإبقاء البلد خارج التجاذبات، صيانة للوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
ظلت مقاربة الإرهاب في تونس جزئية، تحاول معالجة الأعراض، ولا تقترب من الأسباب العميقة للظاهرة، فالمقاربة الأمنية على أهميتها لا تكفي وحدها لمعالجة جذور العنف والإرهاب في تونس، فإجراءات من قبيل إغلاق بعض المساجد، ومنع بعض الأئمة من الصعود على المنابر، أو مطاردة الجمعيات الخيرية، هي من قبيل استسهال الحلول في مقاربة ظاهرة لها جذور ودوافع تشكلت منذ زمن بن علي، فكيف يمكن أن نفسر أن تونس أكبر مصدر للمقاتلين في صفوف داعش في المنطقة العربية؟ وأن جل الشباب الذي يلتحق بجماعات العنف إنما هو من مواليد زمن التضييق الأمني على النشاطات السياسية، ومنع التيارات الإسلامية، واعتماد سياسة تجفيف منابع التدين؟ ألا يدفعنا هذا إلى البحث في المشكلات الهيكلية التي تساعد على تخليق مثل هذه المجموعات، وتمنحها الفرصة للاستقطاب وللاستمرارية. فالمشكلة تجد جذورها في قضايا التعليم والثقافة والإعلام والتفاوت الاجتماعي والفشل السياسي للأحزاب في الاستقطاب والتأطير.
فعلى الرغم من مرور سنوات أربع على الثورة لا توجد سياسة ثقافية واضحة في تونس، وإنما ظل المشهد الثقافي يراكم انتاجات استهلاكية، يروجها إعلام منفلت من كل القيم، ويبالغ في التركيز على قضايا الإثارة، من دون وجود ضوابط أو موجهات تحدد مساراته بصورة تخلق ردات فعل أخلاقية، وتهيء لدعاية مضادة تخدم الفكر الديني في صورته الأكثر تشدداً، وهو نفسه الذي نلاحظه في الخطاب الديني الذي يتم تسويقه في المساجد، ومن خلال المؤسسات الدينية العاجزة فكرياً وبشرياً، على أن تتحول الى مصدر للتنوير. أما التعليم، فقد ظلت الإصلاحات المفترضة تراوح مكانها في ظل صراع حاد بين سلطة الإشراف ونقابات التعليم بمراحله المختلفة.
وتساهم كل هذه العوامل مجتمعة في ازدياد أزمة الهوية التي تشق المجتمع التونسي، وتدفع جيلاً كاملاً من الشباب الى البحث عن ذاته، في رؤى وتصورات إيديولوجية، بعضها مغرق في الماضوية، وبعضها غاية في الانبتات المجتمعي. وكلا الطرحين لا يساعد على التأسيس لاستقرار اجتماعي. فتحصين المجتمعات لا يكون عبر مضاعفة القوى الأمنية، أو المبالغة في الإجراءات التعسفية التي قد تمس الحريات وتنتهك الخصوصيات، أو المبادرة إلى إغلاق بعض القنوات التلفزيونية، أو الإذاعات الدينية، أو التعامل مع القوى السلفية، وكأنما هي اتجاه واحد، لا تشقه تناقضات ولا يعرف الاختلافات، وإنما من خلال إيجاد سبيل إلى بناء توافق اجتماعي، حول سبل محاربة الإرهاب بالطرق الأكثر نجاعة واستمرارية، وبناء هوية وطنية لا تتنكر للتاريخ أو القيم أو للماضي، من دون أن تغرق فيه، أو تفقد تواصلها مع الراهن العالمي، بتطوراته المختلفة.
لن يكون قرار إنشاء جدار عازل بين تونس وليبيا ضامناً للأمن، أو علامة على قرب نهاية حلقة الإرهاب الجهنمية، بقدر ما هو محاولة للسيطرة على وضع حدودي منفلت، قائم على تهريب البضائع والأفراد، أما الأفكار ووسائل الأدلجة والتعبئة التنظيمية، فإنها تسلك طرقاً أخرى، غير التي يقطعها الجدار، وتجد سبيلها لتنمو وتتطور في ظل فشل سياسات التنمية غير المتوازنة، ونظام تعليمي فاشل، لا يبدع إلا في تخريج طوابير العاطلين وإعلام مهيمن، يقوم على التهريج وترويج التفاهة وتسطيح العقول.
المعركة مع الإرهاب طويلة وشاقة، ولا يمثل الجانب الأمني فيها سوى الجزء الظاهر من الصراع، لكن الجوانب الأخرى الأكثر أهمية تحتاج إلى عملية إصلاح شامل، ومراجعة واجبة للبنى الثقافية والفكرية السائدة وإعادة إنتاج خطاب ديني وثقافي، قادر على الإقناع، ولا يكون هذا بغير مزيد ترسيخ المسار الديمقراطي، والتأكيد على أولوية الحريات، وتوسيع مجالاتها، وليس التضييق في هوامشها، فلعبة الإرهاب تكمن، أساساً، في المبارزة، أولاً، عبر الخطاب بالصورة التي تجعل القوى التي تجنح نحو العنف، تجد نفسها في عزلة داخل المجتمع، لأنها في خصومة معه، قبل أن تكون في خصومة مع الدولة، أو مع المنظومة الأمنية.
بقي أن نشير إلى أن غموض تركيبة هذه التنظيمات الإرهابية، وحالة الاستقطاب التي عرفتها من خلال ضم عناصر مشبوهة كثيرة (بعض مجرمي الحق العام ومروجي المخدرات)، مع ما يمكن أن يحصل فيها من اختراقات، تجعل أعمالاً كثيرة منسوبة إليها تصب في خدمة أجندات الثورة المضادة، في أحيان كثيرة، ما يكشف، أحياناً، عن التقاء موضوعي بين قوى الإرهاب وقوى الثورة المضادة، من أجل إفشال مسار الانتقال الديمقراطي، بصورة تبعث على الاستغراب، وتدعو إلى التساؤل حول الأجندات الخفية التي تندرج ضمنها العمليات الإرهابية، وتطرح أيضاً على القوى الحزبية وعقلاء المشهد السياسي التونسي تحديات كبيرة، من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت منذ ثورة 14 يناير/كانون ثاني 2011، وإبقاء البلد خارج التجاذبات، صيانة للوحدة الوطنية والسلم الأهلي.