يوم الأربعاء 4 يوليو/ تموز، والذي صادف عيد استقلال الولايات المتحدة، سافرنا إلى كندا. كان الجو حارا حين أقلعنا. الساعة نحو منتصف الليل. نام الطفل حين غلبه النوم، بينما زوجتي وأنا بقينا نتبادل الحديث ونستمع إلى الموسيقى. عبرنا ولاية ماستشيوسيت غربا في ظرف نحو ساعتين ونصف الساعة. ثم دخلنا ولاية نيويورك. كنت أقاوم النوم. وحين كانت الساعة تشير إلى الخامسة إلا ربعاً توقفت في محطة طرقية ونمت لساعة تقريباً. ثم استأنفنا الرحلة. بعد ساعتين تقريبا أحسست بالتعب والرغبة في النوم، بينما الطفل كان قد استيقظ وهو ينتظر بفرح الوصول إلى تورونتو، لقضاء عطلة في السباحة واللعب مع أبناء خالته. نمت مرة أخرى لمدة ساعة، وحين استيقظت شربت كأس قهوة، واستأنفنا الرحلة.
الرحلة طويلة بين بوسطن وتورنتو. تستغرق يوماً كاملا، من طلوع الشمس إلى غروبها.
تدهشني المناظر الطبيعية في الشمال. المروج والأنهار والبحيرات والغابات. قلت لزوجتي حين كنا نجتاز الحدود الكندية، وفي ضواحي بافالو لا ترى سوى المياه. وديان. بحيرات. جسور. أشجار. جزر صغيرة مكسوة بالشجر. بحيرات شاسعة زرقاء، إذا لم تكن على دراية بالجغرافيا لقلت، مقسماً بأغلظ الأيمان، بدون شك، إنه المحيط الأطلسي.
كلما اجتزت الحدود الأميركية الكندية بتلك السهولة أقهقه كأني أنتصر على العثرات القديمة كلها. أقرأ اللوحات. أحفظها. ألتقط لها صورا في الذاكرة. حقول العنب على جانبي الطريق. الطريق رقم 401. مدينة مسيسوگا. ثم أخيرا تورونتو. السياقة في كندا شبيهة بالسياقة في الدار البيضاء أو نيويورك. الآن أدرك الفارق بين ماستشيوسيت التي يحترم فيها الجميع أسبقية الراجلين ولا أحد بمقدوره استخدام المنبه. بعد كل هذه السنين صارت قيادتي أكثر تعقلا واحتراما للقانون، لأني أعلم أن الشرطي يمكنه أن يباغتك في أي لحظة، وفي أي مكان. هذا أمر لا جدال فيه. والقاعدة، لا ترتكب خطأ ولا أحد سيجرؤ على إيقافك. ليس هناك شيء اسمه "الكونترول" أو المراقبة! كما الشأن في وطننا الحبيب!
بدأت أحس بأني مسكون ببوسطن. منزلي. مكتبي. مكتبتي. حديقتي حيث الدالية تزهر وتتدلى منها عناقيد عنب ضامر. ما يهمني منها هو أوراقها وأغصانها وشكل العناقيد. تذكرني بدالية جدي، وبالنحل وشجر الزيتون. فاكهة الصبار، والزعتر، وشجر "الشيبة"، وحوض النعناع، والبصل، وعش الحسون في أعلى شجر الزيتون، وهديل اليمام والحمام.
كل هذا يحضر حين أسافر إلى مدينة أخرى. صار بيتي مأوى ذاكرتي.
لا نرحل من مكان إلا لكي نعيد صياغته وفق منظومة داخلية لفهم الخارج الذي نريده نحن. وكل شيء لن نفهمه إلا كوجه آخر يشبه شيئا كانت لك معه علاقة ما. تورونتو لا تشبه بوسطن حتما، وبوسطن لها بحر يشبه كورنيش طنجة. تورونتو بلا بحر. مدينة على ضفاف بحيرة. مدينة تشبه المدينة. بحر ليس كالبحر. تصلح للجلوس في الأمسيات وشرب كأس قهوة وتناول قطعة من الشكولاتة، ثم العودة بمزاج شبه صاف. لا صفاء. أما البحر فهو يتطلب منك التنازل عن كأس القهوة مقابل كأس نبيذ مثلج أو كأس شاي بالنعناع.. تجلس قبالته وترشف كأسك وأنت تأكل الفول السوداني المملح. تحس بعقلك قد تشتت. تحسه ثقيلا. تفقد منطق التفكير. لا تركز على شيء. لا ترغب في أحد. لا تسيطر على مزاجك ومشاعرك. تصاب بفوضى الداخل. تصبح تائها وذات لحظة لا تجد من خلاص من هذا الدمار سوى أن تعود إلى البيت. تقضي اللحظات مشتتا ثم تنام. في اليوم التالي تستيقظ بمزاج شخص آخر كأنه غيرك أنت. أنت آخرك. آخر أناك. مدن الساحل تعطيك الطاقة الكافية كي تتخلص من الأدران وتمنحك الأسلحة الكافية لمقاومة كل الأعاصير.
الرحلة طويلة بين بوسطن وتورنتو. تستغرق يوماً كاملا، من طلوع الشمس إلى غروبها.
تدهشني المناظر الطبيعية في الشمال. المروج والأنهار والبحيرات والغابات. قلت لزوجتي حين كنا نجتاز الحدود الكندية، وفي ضواحي بافالو لا ترى سوى المياه. وديان. بحيرات. جسور. أشجار. جزر صغيرة مكسوة بالشجر. بحيرات شاسعة زرقاء، إذا لم تكن على دراية بالجغرافيا لقلت، مقسماً بأغلظ الأيمان، بدون شك، إنه المحيط الأطلسي.
كلما اجتزت الحدود الأميركية الكندية بتلك السهولة أقهقه كأني أنتصر على العثرات القديمة كلها. أقرأ اللوحات. أحفظها. ألتقط لها صورا في الذاكرة. حقول العنب على جانبي الطريق. الطريق رقم 401. مدينة مسيسوگا. ثم أخيرا تورونتو. السياقة في كندا شبيهة بالسياقة في الدار البيضاء أو نيويورك. الآن أدرك الفارق بين ماستشيوسيت التي يحترم فيها الجميع أسبقية الراجلين ولا أحد بمقدوره استخدام المنبه. بعد كل هذه السنين صارت قيادتي أكثر تعقلا واحتراما للقانون، لأني أعلم أن الشرطي يمكنه أن يباغتك في أي لحظة، وفي أي مكان. هذا أمر لا جدال فيه. والقاعدة، لا ترتكب خطأ ولا أحد سيجرؤ على إيقافك. ليس هناك شيء اسمه "الكونترول" أو المراقبة! كما الشأن في وطننا الحبيب!
بدأت أحس بأني مسكون ببوسطن. منزلي. مكتبي. مكتبتي. حديقتي حيث الدالية تزهر وتتدلى منها عناقيد عنب ضامر. ما يهمني منها هو أوراقها وأغصانها وشكل العناقيد. تذكرني بدالية جدي، وبالنحل وشجر الزيتون. فاكهة الصبار، والزعتر، وشجر "الشيبة"، وحوض النعناع، والبصل، وعش الحسون في أعلى شجر الزيتون، وهديل اليمام والحمام.
كل هذا يحضر حين أسافر إلى مدينة أخرى. صار بيتي مأوى ذاكرتي.
لا نرحل من مكان إلا لكي نعيد صياغته وفق منظومة داخلية لفهم الخارج الذي نريده نحن. وكل شيء لن نفهمه إلا كوجه آخر يشبه شيئا كانت لك معه علاقة ما. تورونتو لا تشبه بوسطن حتما، وبوسطن لها بحر يشبه كورنيش طنجة. تورونتو بلا بحر. مدينة على ضفاف بحيرة. مدينة تشبه المدينة. بحر ليس كالبحر. تصلح للجلوس في الأمسيات وشرب كأس قهوة وتناول قطعة من الشكولاتة، ثم العودة بمزاج شبه صاف. لا صفاء. أما البحر فهو يتطلب منك التنازل عن كأس القهوة مقابل كأس نبيذ مثلج أو كأس شاي بالنعناع.. تجلس قبالته وترشف كأسك وأنت تأكل الفول السوداني المملح. تحس بعقلك قد تشتت. تحسه ثقيلا. تفقد منطق التفكير. لا تركز على شيء. لا ترغب في أحد. لا تسيطر على مزاجك ومشاعرك. تصاب بفوضى الداخل. تصبح تائها وذات لحظة لا تجد من خلاص من هذا الدمار سوى أن تعود إلى البيت. تقضي اللحظات مشتتا ثم تنام. في اليوم التالي تستيقظ بمزاج شخص آخر كأنه غيرك أنت. أنت آخرك. آخر أناك. مدن الساحل تعطيك الطاقة الكافية كي تتخلص من الأدران وتمنحك الأسلحة الكافية لمقاومة كل الأعاصير.