تهديدات هجينة

04 أكتوبر 2014

يمكن وصف النهج غير المتوازي بـ"سلاح الضعيف" (أ.ف.ب)

+ الخط -

يقول كورمو وريبنيكار، في كتابهما عن الحروب غير المتوازية، (صدر في باريس في 2002 ونشرت مراجعة له)، إن التماثل، من منظور استراتيجي، هو القتال بأسلحة متساوية، أما اللاتوازي، أو اللاتماثل، فهو سعي طرف إلى استغلال كل نقاط ضعف الخصم، لرفع حجم الإضرار به. وتلجأ المجموعات المسلحة إلى وسائل غير متوازية، متفادية نقاط قوة الخصم ومحاولة مواجهته، في ميدان أقل ملاءمة له. ويضيفان إن "اللاتوازي يعني رفض قواعد القتال المفروضة من الخصم، جاعلاً بذلك كل العمليات غير متوقعة تماماً". وهذا يفترض استخدام أدوات بشكل غير متوقع وغير معهود، كاستعمال طائرات النقل المدني، مثلاً، كما حدث في عمليات "11 سبتمبر"، يجعل وسائل الدفاع المتاحة غير مناسبة أو مكيفة، أو تبني مناهج ترفض الحرب التقليدية (مثل حرب العصابات، الإرهاب)، أو اختيار مناطق المواجهة غير المتوقعة (وسط المدن، مناطق عامة) وأثر المباغتة أو المفاجأة. هذه الميزة الأخيرة هي الأهم، بسبب استخدامها "وسائل بسيطة". ويمكن وصف النهج غير المتوازي بـ "سلاح الضعيف" الذي هو سمة لفاعلين متعددين، لا يملكون إلا وسائل محدودة جداً، لكن قدرتهم على الإضرار كبيرة، يقول المؤلفان.

هذا التعريف للصراعات غير المتوازية يبين العلاقة بين الأخيرة والتهديدات الهجينة (مصدرها فواعل غير دولتية) التي تتخذ من العمل عير المتوازي نهجاً صراعياً وقتالياً. وظهر مفهوم التهديدات الهجينة في بعض دراسات ونقاشات مراكز بحث أميركية في العقد الماضي، ويتعلق الأمر بتهديداتٍ تمزج فيها فواعل غير دولتية وسائل، مثل الحرب التقليدية والجريمة المنظمة والإرهاب والأعمال التخريبية/الانقلابية السياسية والاجتماعية. وتتطور التهديدات الهجينة، بالأساس، في الأقاليم التي لم تعد خاضعة لسيطرة الدولة، لكنه، بحكم طبيعتها العابرة للأوطان، في الأغلب، قد تضرب في مناطق مختلفة وبعيدة، خصوصاً أن الحدود لم تعد حاجزاً يقي الدول من التهديدات. ومن منظور التقنيات والإستراتيجيات القتالية، تعتبر العمليات الهجينة، بحد ذاتها، نمطاً قتالياً، فهي تقوم على استراتيجية متكاملة، تستخدم أنماطاً قتالية تقليدية، واستراتيجية إعلامية قوية جداً، لاسيما عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وتعرف الجماعات التي تعتمد تقنيات هجينة بتحكمها الكبير في تكنولوجيا الاتصال التي توظفها، لتحقيق مآربها، كما يدل على ذلك مثال داعش وفروعه اليوم، والقاعدة بالأمس القريب.

ويرى بعضهم أن التهديدات هجينة، لأن نصفها سياسي ونصفها إجرامي، كالتفاعل-التعاون مثلاً بين جماعات إرهابية وجماعة إجرامية. وبالفعل، نلاحظ، اليوم، أن هذه الجماعات تتعاون فيما بينها في الاتجار بالمخدرات، وفي تهريب الوقود مثلاً، لا سيما على الحدود بين الدول. لكن، غالباً، ما تتولى الجماعات الإرهابية بنفسها تهريب المخدرات وتهريب الوقود، حتى تضمن مواردها المالية، ولا تترك الدعم اللوجستي في أيدي غيرها من الجماعات الإجرامية.

تثير التهديدات الهجينة مخاوف كبيرة، بسبب أشكالها المتعددة وطبيعتها المستعصية الفهم، نظراً لالتباس معالم وهوية الفواعل المعنية، وتداخل العوامل في نشأتها وتطورها وتفاعلاتها ونشاطها القائم، بالأساس، على الحرب غير المتوازية، فضلاً عن طبيعتها العابرة للأوطان، في أغلب الأحيان. وتمثل التهديدات الهجينة خصماً يصعب معرفته وتحديده وتوقع أعماله ونتائجها. فرغم كل العناصر التحليلية والمعلومات المتوفرة، لا يزال التساؤل قائماً عن ماهية داعش، وكيف أصبحت أول فاعل غير دولتي، يندرج ضمن خانة الصراعات غير المتوازية والتهديدات الهجينة، يجبر قوى دولية على إقامة تحالف دولي لمواجهته.

وعلى الرغم من جمعها مختلف الأدوات التقليدية وغير التقليدية، العسكرية وغير العسكرية، فإن التهديدات الهجينة، وهي غير دولتية المصدر، تقتضي رداً عسكرياً. لكن، ليس هذا أمراً محتوماً، بل هو نتيجة تهاون ولا مبالاة. إذ كثيراً ما تترك الدول المعنية هذه التهديدات تتطور متغذية من أزمات داخلية أو إقليمية، حتى يتصلب عودها عسكرياً، ما يحتم اللجوء إلى القوة لمواجهتها، كما حال الائتلاف الدولي ضد داعش. لتصبح المواجهة، التي تبحث عنها مثل هذه التنظيمات مناسبة لتطوير عملها، ولاستدراج دول لحرب استنزاف غير متوازية، كما هو الوضع في أفغانستان. حيث يصبح التدخل الأجنبي فرصة استراتيجية لتحديث التهديدات الهجينة، ومنحها بعداً ونفساً جديدين. وعليه، فللحد من التهديدات الهجينة، يتعين التدخل عبر تدابير سياسية في المرحلة الأولى من الصراع، أو عدم الاستقرار للحيلولة دون ركوب تنظيمات الأزمات السياسية داخل الدول واستيطانها في هذه الأخيرة، وإنشاء دويلات فيها، كما حال داعش في العراق الآن.

والغرب، بحكم قوته ومصالحه العالمية، كان دائماً السباق على الصعيدين، المفهومي والعملي. فقد دخل مفهوم التهديدات الهجينة القاموس الإستراتيجي الغربي، وتبناه حلف الناتو بداية من 2010، بقصد انتهاج استراتيجية فعالة، تستجيب وطبيعة هذه التهديدات. حيث قامت قيادة الحلف المكلفة بتطويره، بإطلاق "مشروع مكافحة التهديدات الهجينة". لكنه لم يدرج هذه الأخيرة في مفهومه الإستراتيجي – الوثيقة الأساسية للحلف – في نسخته الجديدة التي صادقت عليها في القمة الأطلسية المنعقدة في لشبونة في 2010، بيد أن "الناتو" تدارك الأمر، وأدرج هذا المفهوم (التهديدات الهجينة) في قاموسه السياسي وفي مدركاته للتهديد، حيث خصص فقرة كاملة من البيان الختامي لقمته أخيراً في نيوبورت للتهديدات الهجينة.

ورد في البيان "أن الحلفاء سيبذلون جهدهم لأن يكون بمقدور الناتو التصدي بفعالية للتحديات والتهديدات التي تمثلها الحرب الهجينة، والتي، في إطارها، تتفاعل جملة هائلة من الإجراءات العسكرية وشبه العسكرية أو المدنية (...)، ومن الأهمية بمكان أن يكون في حوزة الناتو الأدوات والتدابير الضرورية لضمان الردع وللاستجابة بفعالية للتهديدات الهجينة (...). سيفترض هذا، أيضاً، تطوير الاتصالات الاستراتيجية، صوغ مشاهد تمارين [عسكرية] مع الأخذ في الحسبان التهديدات الهجينة، وتدعيم التنسيق بين الناتو والمنظمات الأخرى (...)، والهدف تحسين تقاسم المعلومات والمشاورات السياسية والتنسيق بين الأجهزة الأمنية". وقد طلب الحلفاء، بمناسبة قمتهم، مراجعة للأدبيات حول الحرب الهجينة. والهدف، على ما يبدو، هو التوصل إلى صوغ عقيدة عسكرية أطلسية، لمواجهة هذا النوع من التهديدات التي تعتبرها دوائر أطلسية تحدياً أساسياً في الراهن، وفي المستقبل القريب.