تهافت خطاب الممانعة

14 ابريل 2015

حزب الله يشيع قتيلين منه سقطا في سورية (مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
لم يكن الربيع العربي مؤامرة من أحد. كان هبّة عفوية من مجاميع شبابية، لم تجد في السلطات الحاكمة ما يمكنه أن يكفل لها مستقبلاً زاهراً، فخرجت للتعبير عن غضبها ويأسها وآمالها. في مقابل هذه الحالة الثورية في الشكل، وغير المؤدلجة في الجوهر، كما ظهر لاحقاً، باتضاح طابع همها الاقتصادي، كان الوضع السياسي العربي قبلها منقسماً باتجاهين: أحدهما يعرف بتيار الممانعة، والآخر بتيار الاعتدال.

لم تكن الأوضاع الداخلية موضع نقاش على كلا الجانبين، فقضايا كالديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الشاملة ومحاربة الفساد كانت شبه غائبة. كان الصراع العربي الإسرائيلي والعلاقة مع الغرب، ممثلاً في الولايات المتحدة الأميركية، الخزان الرئيسي للسجال السياسي بين الطرفين قبل الربيع، وكان الموقف من مقاومة الاحتلال الصهيوني أرض فلسطين، ولدعمها بالمال والسلاح والموقف، هو ما يحدد موقف العرب المسيسين من هذين التيارين.

في البداية، كانت تونس، ثم تبعتها مصر، فسهلت بذلك على المنتمين لتيار الممانعة الانضمام الكامل لهذه الثورات، بوصفها انتفاضات مناهضة للتيار الخصم في المنطقة بالدرجة الأولى، وراحت الدعاية الإيرانية تروج أن هذه الثورات امتداد للثورة الإسلامية الإيرانية، وهي تستهدف، في مجمل ما تستهدف، فك الارتباط بالغرب، وإعادة بوصلة الصراع، للتركيز على العدو الإسرائيلي. قيل هذا الكلام، بعد أن حاصرت الجموع في ميدان التحرير الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك؛ لأنه مثّل أحد أهم أقطاب محور الاعتدال العربي، على الرغم من أن الحشود كانت واضحة منذ البداية، في هتافاتها وشعاراتها، عبر التركيز على إسقاط الأنظمة الفاسدة، واستبدالها بأنظمة قادرة على توفير حياة كريمة لمواطنيها، أي أنها تتعلق بهموم اقتصادية ومعيشية بحتة، أكثر من ارتباطها بقضايا السياسة الخارجية، لكن أصحاب المطامع لم تكن لديهم رغبة في الاستماع لأحد، بقدر ما كانت الرغبة منحصرة في استغلال الحدث، لصالح تسجيل مزيد من النقاط على الخصوم.

أتت اللحظة الحرجة لهذا المحور من سورية، عندما خرج شباب درعا لمحاكاة ميدان التحرير في الوطن العربي، فانتقل الخطاب من دعم هذا الحراك الجماهيري وتأييده إلى محاولة تحجيم طموحاته، وصدّ اندفاعته، بطلب الرضوخ لشروط النظام الحاكم في دمشق، والعمل على مسايرة سرديته الرسمية، عن طريق نفي وطنية المعارضين القائمين على المظاهرات، وإلصاقهم بمؤامرة خارجية. حدث هذا كله، قبل تحول المعارضة إلى حمل السلاح، وقبل دخول الحركات الجهادية إلى أرض المعركة التي راح بعضها ينسج علاقات مع إسرائيل.

بعد مضي أربع سنوات من الفوضى والانهيار الكبير، وانخراط المحورين في معركة حماية الحلفاء، والتنافس على مدّ النفوذ، سقطت حججٌ كثيرة ساقها الطرفان، لكن محور الممانعة تضرر أكثر من غيره، وإن بدا وكأنه لم يخسر أراضيه، عبر تثبيت نظام الحكم في دمشق وبغداد، أو أنه في حالة تمدد بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، إلا أن الحقيقة أن هذا المحور خسر الكثير على مستوى تصدّع الخطاب، وعلى مستوى فقدانه قواعد جماهيرية واسعة في الوطن العربي، بعد أن كان يحظى بدعمها الكامل نظير موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي، حيث وصل الدعم إلى حد تبرير معاركه الداخلية، كما حدث في مواجهات 7 مايو/أيار 2007 في بيروت، بين حزب الله وحركة 14 آذار.

في ما يتعلق بحرب اليمن، بدا خطاب الممانعة موتوراً، ولم تكن دعاوى "الحرص على المدنيين" كافيةً لتغطية الانحياز التام للحوثي، الحليف الجديد، بل غلبت لغة الاستنقاص من الخصوم، وازدراؤهم هي اللغة السائدة في الأيام الماضية، وإن اتهام الآخرين بالانفصال عن مطالب الشعوب يشمل كذلك محور الممانعة، تماماً، كما يشمل الآخرين؛ لأن التجربة أثبتت أن هذا المحور لا يمتلك مشروعاً إصلاحياً داخلياً في معظم المناطق التي يحكمها، وأن الحوثي، هو الآخر، لا يملك التأهيل اللازم لكي يُدير السلطة في اليمن منفرداً، أو أن يدّعي الحرص على مصالح الشعب فيه، ولأن اليمن ليس ساحة مواجهة مع إسرائيل، فإن الدعم العسكري و"نقل الخبرات" لفصيل ذوي مشروع طائفي يجب أن يُساءل عنه هذا المحور الذي يدّعي مواجهة الطائفية، والحرص على وحدة الأراضي العربية وسلامتها.

اكتسب محور الممانعة مشروعيته في الوطن العربي، من خلال مقاومة العدو الإسرائيلي، وعلى انتصاراته بنى أمجاده، لكن هذه الأمجاد تتبخر، تدريجياً، بفعل الرعونة السياسية التي يمارسها، من خلال دعم من لا يستحق الدعم. يجب أن يقال لهؤلاء إن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لا تعطي أصحابها الحق في التصرف في المنطقة، كما يحلو لهم.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"