24 مايو 2024
تقسيم ليبيا .. لا مُوارَبة بعد اليوم
وقف رأس النظام العسكري الحاكم في مصر، الجنرال عبد الفتاح السيسي، في إحدى القواعد العسكرية في صحراء مصر الغربية، التي تم تطويرها بأموال إماراتية وخبرات روسية، وعلى بعد أكثر من ألف كيلومتر من مدينتي سرت والجفرة الليبيتين، وأعلن مهدّداً ومتوعداً أن هاتين المدينتين خطٌ أحمر، وكأنهما داخل الحدود السياسية للدولة المصرية، في الوقت الذي لم يعر الجنرال قضية سد النهضة الاهتمام نفسه، ولم يعتبرها أي خط من الخطوط. في الوقت الذي يتفاوض فيه الجنرال مع اليونان لترسيم الحدود البحرية، وبموجب الترسيم سيتنازل عما لا يقل عن 15 ألف كم مربع من حقوق مصر في المياه الاقتصادية الدولية. في الوقت الذي تنازل فيه الجنرال عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين الاستراتيجيتين قبل ثلاث سنوات، ولم يتعامل معهما خطاً أحمر، في الوقت الذي سمح فيه الجنرال بدخول القوات الصهيونية أراضي شبه جزيرة سيناء، والتي تقتل المواطنين المصريين سواء بطائراتها بدون طيار، أو من خلال عمليات مباشرة على الأرض، ولم يعتبر سيناء خطاً أحمر.
وكيف يكون كل هذا (سيناء، تيران وصنافير، المياه الاقتصادية، مياه النيل) خطوطاً حمراء، طالما تتم في إطار دفع الضريبة لداعميه الإقليميين والدوليين، وإرضاءً لمخططي انقلابه عام 2013، وسعياً إلى شرعية زائفة، بل والأسوأ ما يعتبره الجنرال نكاية في تركيا. وهنا يأتي السؤال: لماذا سرت والجفرة؟ ولماذا الآن؟ وما موقع هذا من مخططات تقسيم ليبيا؟
سرت والجفرة لأهميتهما الاستراتيجية في معادلة النفط والموانئ الليبية، وفق أهداف السيسي ومحمد بن زايد وأطماعهما وطموحاتهما، فمدينة سرت التي تبعد نحو ألف كيلومتر عن الحدود المصرية، تقع في منتصف المسافة تقريباً بين مدينتي طرابلس وبنغازي على ساحل ليبيا على البحر المتوسط (450 كيلومترا من العاصمة طرابلس و600 كلم من بنغازي)، والسيطرة
عليها تُعطي أفضلية للسيطرة على الموانئ النفطية في منطقة الهلال النفطي في الشرق الليبي، التي تضم أكبر مخزون للنفط في البلاد، ويمتد شمالًا إلى مسافة 295 كيلومترًا من مدينة إجدابيا (160 كيلومترًا جنوب بنغازي) إلى مدينة بن جواد (155 كيلومترًا شرق سرت) ويمتد جنوبًا إلى منطقة السرير بمسافة تزيد قليلًا على 800 كيلومتر، ويحتوي على حوالي ثلثي المخزون النفطي الليبي، وفيه أربعة موانئ نفطية من الموانئ الستة في ليبيا: الزويتينة والبريقة وراس لانوف والسدرة. وفي منطقة سرت قواعد عسكرية مهمة، مثل قاعدة القرضابية الجوية التي تبعد عن جنوب سرت 16 كيلومترا، بالإضافة إلى أن سرت غرفة عمليات رئيسة لقوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، ويعد مطار المدينة وميناؤها من أهم المنافذ الرئيسية في ليبيا على ساحل المتوسط.
أما مدينة الجفرة فتقع فيها قاعدة الجفرة الجوية المهمة، التي تفرض الإمارات سيطرتها عليها، وانطلقت منها عمليات عسكرية عديدة ضد الحكومة الشرعية، وتُعد من أكبر القواعد الجوية الليبية، وتتميز ببنيتها التحتية القوية التي تم تحديثها إماراتياً بدعم روسي، لكي تستوعب أحدث الأسلحة والطائرات، وهي أيضاً من غرف العمليات الرئيسية لمليشيات حفتر. وتبعد الجفرة جغرافياً نحو 650 كيلومترا جنوب شرقي طرابلس، وهي أحد أهم محاور الربط العسكري بين الشرق والغرب والجنوب. ومن شأن السيطرة عليها تسهيل السيطرة على نصف مساحة ليبيا تقريباً (مساحة إقليم برقة 855 ألف كم2، من إجمالي مساحة ليبيا 1.76 مليون كم2). وسرت والجفرة تقعان خارج إقليم برقة، وبالتالي تزيد المساحة الكلية للمنطقة التي اعتبرها السيسي خطاً أحمر لضمان السيطرة على النفط والموانئ والقواعد العسكرية، ولو على حساب وحدة الأراضي الليبية.
ليست مخططات تقسيم ليبيا وليدة اليوم، وإنما تعود إلى عدة عقود مضت، وقبل حصول ليبيا على استقلالها، حيث برز في هذه المرحلة مشروع بيفن سفورزا 1949، وقدمه وزيرا خارجية إيطاليا كارلو سفورزا وبريطانيا إرنست بفين، ونص على أن تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات من تنفيذ هذا القرار، مع وضع برقة تحت الوصاية الدولية، تحت إدارة المملكة المتحدة، ووضع فزان تحت الوصاية الدولية، تحت إدارة فرنسا، ووضع طرابلس تحت الوصاية الدولية في نهاية عام 1951، تحت إدارة إيطاليا، على أن تستمر الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية، بمساعدة مجلس استشاري يتكون من ممثلين عن كل من مصر وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وممثل عن الشعب الليبي. وتم تقديم المشروع للتصويت عليه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 17 مايو/أيار 1949، وكان يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين وعددهم 58 دولة، إلا أن الوفد الليبي المشارك نجح في كسب تأييد ممثل دولة هايتي لدى الأمم المتحدة لرفض المشروع، وكان صوته مرجحاً لسقوط المشروع.
وتجدّدت المخططات بعد الثورة الليبية في فبراير/ شباط 2011، حيث ظهرت تقارير عن
مراكز بحثية أميركية وفرنسية وإيطالية، عن مخططات التقسيم على أساس كونفدرالي بين الأقاليم الليبية الثلاثة (برقة، طرابلس، فزّان) التي نص عليها مشروع بيفن سفورزا، بل واتجهت دول إلى دعم قبائل ليبية في هذه الأقاليم، إلى الدرجة التي هدد بعضها، وخصوصا في الشرق الليبي وفي المناطق الغنية بالنفط، بأنهم سيضخون النفط بعيداً عن الحكومة الليبية، وتعدّدت الفعاليات الداعية إلى الانقسام تحت مسمى كونفيدرالية. ثم تعززت هذه الدعاوى بعد الانقلاب العسكري الذي قام به خليفة حفتر في الشرق الليبي، بدعم الإمارات والسعودية، عبر بوابة النظام الانقلابي الحاكم في مصر بقيادة السيسي. وتعددت صور هذا الدعم بالمال والسلاح والتدريب، وإعادة تأهيل القواعد العسكرية والموانئ الليبية وتطويرها، ونشر عشرات آلاف من قوات المرتزقة، وخصوصا من الدول الأفريقية في الجوار الليبي، ثم من شركات الأمن الخاصة، مثل فاغنر الروسية.
وتراهن الإمارات على إعادة استنساخ النموذج اليمني في ليبيا، حيث فرضت سيطرتها على الجنوب اليمني، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وشكلت مؤسساتٍ لترسيخ الانفصال تمهيداً للهيمنة عليها، بعيداً عما تسمى الحكومة الشرعية اليمنية، بقيادة عبد ربه منصور هادي، بعد عدوان عسكري مستمر منذ مارس/ آذار 2015، وهي تكرر النموذج نفسه بالسياسات نفسها، عبر دعم خليفة حفتر في مواجهة الحكومة الشرعية برئاسة فائز السراج. ويجد النظام العسكري المصري في ذلك فرصة للحصول على مزيد من الدعم المالي الإماراتي، نظير ما يقوم به من خدمات في الملف الليبي، بجانب الحصول على نسبةٍ من عائدات النفط الليبي، وأن يكون البوابة لتسليح قوات حفتر ومليشياته، عبر صفقات السلاح الضخمة التي يحصل عليها من روسيا وفرنسا وإيطاليا، تلك الدول التي يسعى كل منها إلى ترسيخ واقع التقسيم، من خلال التدمير الذاتي للأطراف المتصارعة على الساحة الليبية، بحيث تقف جميعها عاجزةً عن الحسم فتضطر لتقديم تنازلات لهذه القوى الإقليمية، ولو على حساب وحدة ليبيا وسلامة أراضيها. الأمر الذي يفرض على الحكومة الشرعية المعترف بها رسمياً، والمجلس الرئاسي الليبي، الوعي الكامل بمثل هذه المخططات، وتوقع كل السيناريوهات، حتى أكثرها كارثية، وتبنّي السياسات اللازمة للتعاطي معها، خصوصا أن خبرات النماذج اللبنانية والصومالية والعراقية والسورية واليمنية ليست بعيدة، وآثارها الكارثية لا تتوقف.
سرت والجفرة لأهميتهما الاستراتيجية في معادلة النفط والموانئ الليبية، وفق أهداف السيسي ومحمد بن زايد وأطماعهما وطموحاتهما، فمدينة سرت التي تبعد نحو ألف كيلومتر عن الحدود المصرية، تقع في منتصف المسافة تقريباً بين مدينتي طرابلس وبنغازي على ساحل ليبيا على البحر المتوسط (450 كيلومترا من العاصمة طرابلس و600 كلم من بنغازي)، والسيطرة
أما مدينة الجفرة فتقع فيها قاعدة الجفرة الجوية المهمة، التي تفرض الإمارات سيطرتها عليها، وانطلقت منها عمليات عسكرية عديدة ضد الحكومة الشرعية، وتُعد من أكبر القواعد الجوية الليبية، وتتميز ببنيتها التحتية القوية التي تم تحديثها إماراتياً بدعم روسي، لكي تستوعب أحدث الأسلحة والطائرات، وهي أيضاً من غرف العمليات الرئيسية لمليشيات حفتر. وتبعد الجفرة جغرافياً نحو 650 كيلومترا جنوب شرقي طرابلس، وهي أحد أهم محاور الربط العسكري بين الشرق والغرب والجنوب. ومن شأن السيطرة عليها تسهيل السيطرة على نصف مساحة ليبيا تقريباً (مساحة إقليم برقة 855 ألف كم2، من إجمالي مساحة ليبيا 1.76 مليون كم2). وسرت والجفرة تقعان خارج إقليم برقة، وبالتالي تزيد المساحة الكلية للمنطقة التي اعتبرها السيسي خطاً أحمر لضمان السيطرة على النفط والموانئ والقواعد العسكرية، ولو على حساب وحدة الأراضي الليبية.
ليست مخططات تقسيم ليبيا وليدة اليوم، وإنما تعود إلى عدة عقود مضت، وقبل حصول ليبيا على استقلالها، حيث برز في هذه المرحلة مشروع بيفن سفورزا 1949، وقدمه وزيرا خارجية إيطاليا كارلو سفورزا وبريطانيا إرنست بفين، ونص على أن تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات من تنفيذ هذا القرار، مع وضع برقة تحت الوصاية الدولية، تحت إدارة المملكة المتحدة، ووضع فزان تحت الوصاية الدولية، تحت إدارة فرنسا، ووضع طرابلس تحت الوصاية الدولية في نهاية عام 1951، تحت إدارة إيطاليا، على أن تستمر الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية، بمساعدة مجلس استشاري يتكون من ممثلين عن كل من مصر وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وممثل عن الشعب الليبي. وتم تقديم المشروع للتصويت عليه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 17 مايو/أيار 1949، وكان يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين وعددهم 58 دولة، إلا أن الوفد الليبي المشارك نجح في كسب تأييد ممثل دولة هايتي لدى الأمم المتحدة لرفض المشروع، وكان صوته مرجحاً لسقوط المشروع.
وتجدّدت المخططات بعد الثورة الليبية في فبراير/ شباط 2011، حيث ظهرت تقارير عن
وتراهن الإمارات على إعادة استنساخ النموذج اليمني في ليبيا، حيث فرضت سيطرتها على الجنوب اليمني، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وشكلت مؤسساتٍ لترسيخ الانفصال تمهيداً للهيمنة عليها، بعيداً عما تسمى الحكومة الشرعية اليمنية، بقيادة عبد ربه منصور هادي، بعد عدوان عسكري مستمر منذ مارس/ آذار 2015، وهي تكرر النموذج نفسه بالسياسات نفسها، عبر دعم خليفة حفتر في مواجهة الحكومة الشرعية برئاسة فائز السراج. ويجد النظام العسكري المصري في ذلك فرصة للحصول على مزيد من الدعم المالي الإماراتي، نظير ما يقوم به من خدمات في الملف الليبي، بجانب الحصول على نسبةٍ من عائدات النفط الليبي، وأن يكون البوابة لتسليح قوات حفتر ومليشياته، عبر صفقات السلاح الضخمة التي يحصل عليها من روسيا وفرنسا وإيطاليا، تلك الدول التي يسعى كل منها إلى ترسيخ واقع التقسيم، من خلال التدمير الذاتي للأطراف المتصارعة على الساحة الليبية، بحيث تقف جميعها عاجزةً عن الحسم فتضطر لتقديم تنازلات لهذه القوى الإقليمية، ولو على حساب وحدة ليبيا وسلامة أراضيها. الأمر الذي يفرض على الحكومة الشرعية المعترف بها رسمياً، والمجلس الرئاسي الليبي، الوعي الكامل بمثل هذه المخططات، وتوقع كل السيناريوهات، حتى أكثرها كارثية، وتبنّي السياسات اللازمة للتعاطي معها، خصوصا أن خبرات النماذج اللبنانية والصومالية والعراقية والسورية واليمنية ليست بعيدة، وآثارها الكارثية لا تتوقف.