تشكيليون فلسطينيون في المنفى: ظلال المكان الأول

29 يونيو 2017
(من أعمال محمود طه)
+ الخط -
عرفتُ فنان الخزف والحروفيات الفلسطيني محمود طه مبكراً، في سنوات دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد (1964-1968)، أي قبل أن يراكم من الخبرات والتجارب الفنية والمعارف، ما سيجعله معلماً بارزاً من معالم هذا الفن على صعيد الوطن العربي أولاً، ثم على الصعيد العالمي.

كانت قد برزت منذ النصف الأول من القرن العشرين، شخصيات فلسطينية في مجالات علمية وتربوية متنوّعة، لكن الساحة الثقافية العالمية، ظلت في ما يشبه حالة الانتظار، كأنما هي على موعد مرتقب مع لمسات فلسطينية سيأتي بها المستقبل القريب، لرسام أو نحات أو خزاف أو شاعر وروائي أو ناقد وباحث.

وهو الأمر الذي سيتحقق في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الراهن، حين سيصبح حضور الفنان والشاعر والروائي والناقد والباحث الفلسطيني، طاغياً وثرياً ومدهشاً في ظلال المكانين؛ المنفى والوطن على حد سواء.

في الذاكرة صورة الفنان محمود طه (1942-2017)؛ الذي رحل عن عالمنا في عمّان في شباط/ فبراير الماضي، وهو يقف معنا لالتقاط صورة تذكارية على سطح مبنى يدعى "المشتمل" اتخذه سكناً، أيام الدراسة في "أكاديمية الفنون الجميلة" في بغداد. ويظهر في الصورة فنان فلسطيني بارز أيضاً هو ياسر الدويك (1940)، وزميل مرح لا أعرف أين استقر به المقام اسمه زهير يحيى. من سكان المشتمل أيضاً، كان عبد المجيد أبو ديل، وهو فنان اختار أن يستكمل دراسته الجامعية في عالم التجارة والاقتصاد، وأن يرسم ويعرض بعيداً عن أكاديمية الفنون.

وسيلتحق بهذه المجموعة الدراسية بعد سنة أو سنتين في منتصف الستينيات، كل من الفنان عزيز عمورة (1944)، والفنان محمود صادق (1945)، والفنانة رحاب النمري (1940-2009). ويشكّلون مجموعة جادة تستكمل دراستها في ما بعد في عالم الغرب، إما لاكتساب معرفة بفرع فني آخر، أو الحصول على درجة عليا في فلسفة الفن. هذه المجموعة أصبح يشار إليها الآن بوصفها مؤسِّسة لتوجهات الفن التشكيلي، ومؤثرة في مناهج تعليم فنون الرسم والخزف والخط في الأردن بلد "المنفى".

الآن وأنا أطالع الصور، وأتذكر تلك الأيام، تلفت نظري واقعة لم تكن في المقدمة آنذاك؛ واقعة أن هؤلاء الفنانين خرجوا مشرّدين من قرى ومدن فلسطين بالترتيب التالي: محمود طه من يازور بالقرب من يافا، وعزيز عمورة من الطيرة بقضاء حيفا، ورحاب النمري من القدس، ومحمود صادق من المجدل، وياسر الدويك من الخليل. أي أنهم فنانون في "المنفى". ولا تجسد معاني هذه الواقعة أسماء قُراهم ومدنهم التي استعمرها الصهاينة، فدمروا بعضها وأقاموا في بعضها الآخر، فقط، بل وروح أعمالهم الفنية، وإشاراتها.

الوطن والذاكرة الشغل الشاغل لفنان الجداريات والأواني الخزفية محمود طه، وظلال المآسي (مذابح أيلول في عمّان، وصبرا وشاتيلا في لبنان)، هي التي تخيّم على لوحات عمورة، والقدس في قلب ابنتها رحاب، أما صادق فلا تغادر قماش لوحاته حكايات الأمهات ومواسم الحصاد. المكان وظلاله أو الوطن الحق، هو الذي يجعل المنفى حالة مؤقتة وهشة، تتفتّت عند أدنى بادرة يقظة على نهار واحد من نهارات فلسطين. هل ياسر الدويك الآن مطمئن ومستريح في حوارة إربد التي عمل فيها مدرّساً، وفي الألقاب التي غمره بها وطن المنفى؟ أشك في ذلك.

كانت الصورة فوق سطح "المشتمل" في آذار/ مارس من العام 1967، ونحن على عتبة التخرّج، وكنا قبلها بأيام في زيارة نحتفي خلالها بمعرض فنان فلسطيني آخر هو أحمد نعواش (1934-2017)، جاء لحضور افتتاح معرضه في بغداد، ووقفت المجموعة بكامل أفرادها لالتقاط صورة معه، تقديراً له وللفنان العراقي الكبير فائق حسن (1914-1992)، الأستاذ في الأكاديمية آنذاك، والذي كان حاضراً بمناسبة المعرض.

في تلك الأيام كان التأكيد على حضور لفظة "فلسطيني"، بالنسبة لنا، انتصاراً نرفعه في وجه التجاهل والإهمال والطمس المتعمّد للإسم الفلسطيني، وللذاكرة والوطن. وبلغت هذه الرغبة في تحقيق انتصار على الوعي المنهزم، أو الوعي المستعَمر، والمخيلة الخاوية، ولو بفعل بسيط مثل هذا، حدّ أن أحد الأصدقاء، وهو يكتب عرضاً لمجموعة شعرية لشاعر فلسطيني، قال لي أن مجرّد إمكانية أن يكتب عبارة "الشاعر الفلسطيني" في صحيفة من صحف ذلك الوطن/المنفى، حيث لا يجرؤ فلسطيني على إعلان هويته الحقيقية كان مصدر سعادة غامرة بالنسبة له.

كان الفلسطيني في تلك الأيام إما محرّماً عليه الانتساب إلى فلسطينيته، أو يخشى الإعلان عن وجوده. كان "لاجئاً" فقط. وسيكون بحاجة إلى كفاح شاق ومرير، لا ليفصح عن هويته فقط، بل وليستحق أن يكون إنساناً بحجم فلسطينيته. ولم يكن كفاح مجموعة بغداد تلك إلاّ جانباً من جوانب هذا الصراع الدامي لاستعادة المعنى والوطن، معاً.

المساهمون