كان رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته، نوري المالكي، واثقاً، عندما قال في تصريح، قبيل التطورات الأخيرة، إن لديه من الأصوات ما يؤهّله لتشكيل الحكومة من دون الرجوع الى الاصوات التابعة لشريكيه السابقين في "التحالف الوطني"، مقتدى الصدر وعمار الحكيم. وفُهم تصريحه بأنه كان يعوّل على بعض الانقسامات داخل كتل العرب السنّة والأكراد.
وعلى صعيد العرب السنّة، دأب المالكي على استراتيجية تستند إلى خلق كيانات عربية سنية، يدعمها بالمال السياسي، وتعززها السلطة القضائية التي يسيطر عليها، بالاضافة الى استخدامه سياسة "العصا والجزرة" مع الذين يمسك عليهم ملفات فساد أو قضايا أخرى غير قانونية، لكي يضمن تحالفهم معه لتشكيل الحكومة المقبلة برئاسته. وتطلق على زعامات هذه الكيانات في الشارع العراقي تسمية "سنّة المالكي"، منهم سليم الجبوري، وسعدون الدليمي، وحميد الهايس، وأحمد أبو ريشة، وقاسم الفهداوي، وأحمد الجبوري، ومشعان الجبوري. وتشكل كيانات هؤلاء نحو 40 مقعداً في البرلمان العراقي. وبحسب تسريبات من داخل التحالف الحاكم ذي الغالبية الشيعية، جاء سحب رئيس مجلس النواب المنتهية ولايته، أسامة النجيفي، ترشيحه لولاية ثانية لرئاسة مجلس النواب، بناءً على طلب من المالكي، كشرط حتى يسحب الأخير ترشيحه لرئاسة الوزراء، ولكن بعد إعلان النجيفي عن هذا الانسحاب، أعلن المالكي أنه لن يتنازل عن السلطة.
أما على صعيد الأكراد، فيعوّل المالكي على الاختلاف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني، وحزب الاتحاد الوطني، بزعامة رئيس الجمهورية العراقية المنتهية ولايته جلال طالباني. ويتمحور الخلاف الحالي بينهما على منصب رئيس الجمهورية، الذي أصبح استحقاقاً كردياً في ظل المحاصصة الطائفية في عراق ما بعد 2003، وقد احتله الطالباني على مدى الدورتين البرلمانيتين السابقتين. ولكن بعد الأداء الضعيف لحزب الطالباني في الانتخابات البرلمانية الاتحادية والكردستانية الأخيرة، أصبح هذا المنصب محل خلاف بين الحزبين، في ظل تمسك حزب الطالباني ومطالبة حزب البرزاني به. وكان عضو اللجنة الكردية العليا للتفاوض مع بغداد لتشكيل الحكومة، ياسين حسن، قد أقر، الأسبوع الماضي، أنه "من المتوقع أن يتسبّب منصب رئيس الجمهورية بمشكلة بين الأكراد".
وكانت الخلافات بين الأحزاب الكردية الرئيسية في الإقليم، قد أدت الى تأخر تشكيل الحكومة الكردية شهوراً طويلة. ويعتبر حزب التغيير، بزعامة نوشيروان، المنشق عن حزب الاتحاد الوطني، والمعارض الأقوى للحزبيين الكرديين الرئيسيين، من أهم الأوراق التي يراهن عليها المالكي للحصول على الاصوات الكافية التي تؤهله لتشكيل الحكومة المقبلة، بمعزل عن كتلتي الصدر والحكيم والسنّة العرب المعارضين له.
كما يعتبر حزب طالباني، الأقرب الى إيران. وكان الطالباني قد عارض قرار حجب الثقة عن المالكي في أبريل/ نيسان 2012، وهو ما سعى إليه كل من الصدر وإياد علاوي والبرزاني، في ما عرف لاحقاً بـ"اتفاقية أربيل". ولكن بعد انسحاب الجيش العراقي من المناطق المتنازع عليها مع بغداد، وسيطرة الاكراد على تلك المناطق، وتصاعد التوتر بين بغداد وأربيل، لا يعرف ما هي التنازلات التي يفكر المالكي بمنحها الى الاكراد ليجذبهم الى الانضمام لحكومة برئاسته.
سياسية التسويف لربح المعركة لصالح مَن؟
تعتبر إيران الحليف الأقوى للمالكي في العراق، وكان الأخير يستخدم الصورة التي بناها عن نفسه، أي "الرجل القوي"، فزاعة لإرهاب خصومه ومعارضية، ولكي يثبت لإيران أنه رجلها الوحيد القادر على الحفاظ على استراتيجياتها، وليظهر لدول العالم أنه قادر على دحر "الإرهاب" الذي تشكله المناطق الغربية المعارضة لحكمه.
ولكن انهيار الجيش العراقي وسيطرة المسلحين على مناطق كثيرة، في 10 يونيو/ حزيران الماضي، هزت الصورة التي رسمها المالكي لنفسه، وزادت من انتقاد القوى الأخرى له، والتي حمّلته مسؤولية الاخفاق الأمني. وجاء إصرار القوى الشيعية الأخرى، تحديداً التيار الصدري وكتلة الحكيم والمرجعية الدينية في النجف، على رفض التجديد لولاية ثالثة له، ، ليدق ناقوس الخطر لدى إيران، لأنها تعتبر أن شق "الصف الشيعي"، الذي يُفقد الهيمنة على مقاليد السلطة في العراق، هو خط أحمر يهدد سياستها في المنطقة. من هنا جاء التصريح الأخير لنائب وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الذي أكد فيه دعم بلاده لترشيح المالكي لولاية ثالثة، لكنها "لا تمانع في وصول أي شخصية أخرى يختارها البرلمان العراقي"، يؤشر إلى أن إيران تدرس جدياً إيجاد بديل عن المالكي.
وعلى الرغم من ذلك، هناك مؤشرات أخرى تؤكد أن إيران لا تريد أن يترك المالكي السلطة في الوقت الحالي، في ظل مواجهة الفصائل التي سيطرت على ثلث أراضي البلاد. وكانت معلومات صحافية قد نسبت الى مصادر إيرانية وجود مساعٍ لطهران لدى الأكراد، حول ضرورة مساعدة الحكومة العراقية لإنهاء "داعش"، وإعادة الأوضاع الی ما قبل 10 يونيو، وللتحذير من أي خطوة انفصالية.
كما يؤشر الموقف الإيراني الجديد، الى أن طهران حريصة على استخدام وجود المالكي في السلطة، كورقة في مباحثاتها المتعثرة مع دول (5 + 1) حول ملف برنامجها النووي.
وقد ذكر مصدر موثوق، مقرّب من ائتلاف المالكي، لـ"العربي الجديد"، أن رئيس الحكومة اجتمع بقياديين في ائتلاف دولة القانون، الأسبوع الماضي، واتفق الحاضرون على وجوب الاستمرار في التسويف والمماطلة في التعاطي مع قضية تشكيل الحكومة المقبلة، على أمل تحقيق مكاسب ميدانية ضد الفصائل المسلحة، حتى لو تطلّب ذلك شهوراً طويلة. ووفقاً للمصدر، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، فإنّ "المالكي وقادة في ائتلافه، يأملون استخدام هذه المكاسب لرفع سقف مطالبهم في تشكيلة الحكومة المقبلة". وكشف المصدر أن المجتمعين اتفقوا على أن يطلب المالكي من القوى الأخرى، تولّي إحدى الوزارات الأمنية، كشرط أساسي لسحب ترشيحه، ولكي "يحصّن نفسه وبقية أعضاء ائتلافه من أي مساءلة قانونية يفكر خصومه برفعها ضده، بعدما توصل الى قناعة بأن هؤلاء سيفتحون ضده ملفات فساد وقضايا أخرى.