تزييف العملات على حدود تونس-الجزائر: حقيقة أم افتراء؟

25 نوفمبر 2017
البنك المركزي التونسي ينفي تزييف النقود (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
فيما فندت التحريات "المعمقة" التي قامت بها الأجهزة المالية التونسية ما تم تداوله من أخبار حول صك عملة معدنية تونسية يتم تزويرها بالصين ويقع تداولها من قبل عصابات تنشط على الحدود بين تونس والجزائر، ترجّح مصادر جزائرية تحدثت إلى "العربي الجديد" تفاقم الظاهرة وتورط عدد من رجال الأعمال النشطين بهذه المنطقة الحدودية في هكذا فساد.
وقال البنك المركزي التونسي، في بيان قبل يومين، إن الأخبار المتداولة في وسائل إعلام جزائرية، حول تزييف عملة معدنية تونسية ومحاولات ترويجها بمدينة "العلمة" الجزائرية الحدودية مع تونس، لا أساس لها من الصحة وقد فنّدته القنصلية التونسية بعنابة بشكل قطعي.

وتطرقت وسائل إعلام جزائرية الأسبوع الجاري، إلى تزايد تردد التونسيين على مدينة العلمة الجزائرية المعروفة بالنشاط التجاري، وهو ما استغله رجال الأعمال الذين يستثمرون هذا الإقبال في صك العملة المعدنية التونسية وتزويرها بالصين. ونقلها إلى مدينة العلمة لبيعها بعدها لعصابات تونسية.
وقالت هذه التقارير التي تناقلتها أيضاً وسائل إعلام تونسية، إن جماعات إجرامية منظمة من الجانبين الجزائري والتونسي تستغل هذا الموقف، لارتكاب جرائم اقتصادية وإجراء تعاملات مشبوهة، حيث يتواجد بمدينة العلمة عدد من رجال الأعمال المعروفين بنشاطهم في تهريب السلع المحظورة من الصين.

نفي تونسي

وفي سياق متصل، قال المسؤول الإعلامي بالبنك المركزي التونسي، شاكر عطالله، إن البنك المركزي أصدر بيان التكذيب لما تداولته وسائل الإعلام الجزائرية والمحلية حول تداول عملة مزيفة تصنع في الصين بعد القيام بتحريات معمقة من قبل هياكل وأجهزة حكومية مختصة.
ولا يحجب نفي المركزي التونسي لتداول عملات نقدية مزيفة تُصنع في الصين وجود جرائم تزوير العملة في البلاد، حيث تمكنت وحدات الحرس الوطني التابعة لمنطقة الحرس بفريانة في ولاية القصرين الحدودية مع الجزائر، من إيقاف شخص قبل يومين، وبحوزته 4250 يورو مزيفة (85 ورقة من فئة 50 يورو).

وبين الفترة والأخرى تكشف أجهزة الأمن والجمارك عن عصابات تقوم بتزوير العملة وتداولها سواء كانت من فئة الدينار التونسي أو عملات أجنبية على غرار اليورو والدولار.

طباعة محمية

وحول مسالك طباعة العملة التونسية وحمايتها، قال مصدر مسؤول بالبنك المركزي في حديث لـ "العربي الجديد" إن طباعة الأوراق النقدية أو القطع المعدنية من مختلف الفئات تتم في إطار مناقصة دولية يقوم بها البنك المركزي في دول لها خبرات وتقنيات متطورة في صناعة العملات على غرار ألمانيا وسويسرا، مشيراً إلى أن العملات والمصكوكات المطبوعة بطرق رسمية تكون محمية.
وعموماً، لا تكشف السلطات النقدية التونسية عن تفاصيل كثيرة عن كيفية ودول طباعة عملتها مكتفية بالإعلان عن الإصدارات الجديدة عبر بيانات أو بعض التفاصيل حول تصميمات الأوراق النقدية.



وغالباً ما تحاط الأماكن التي تقوم بطباعة العملة في دول العالم بالسريّة المطلقة كما أن تكلفة طباعة العملة لا يصرّح بها، كما تفرض القوانين الدولية أن تكون البنوك المركزية التي تتقدم بطلبات لطباعة العملات عضواً مسجلاً في البنك الدولي.

خطر بعيد

ويعتبر الخبير المالي التونسي، معز الجودي، أن جرائم تزوير العملة ليست حكراً على دول دون أخرى، مشيراً إلى أن عملات أكبر اقتصاديات العالم تعاني من ظاهرة التزوير التي تتم ضمن شبكات إجرامية منظمة وتعتمد في غالب الأحيان على تقنيات عالية لصد عملات مزيفة يتم ضخها بطرق مختلفة في السوق.
وأضاف الجودي، في حديث لـ "العربي الجديد"، أن الشبكات الناشطة في مجال تزوير الأوراق النقدية ليست بمعزل عن شبكات التهريب والإرهاب، معتبراً أن هذه الحلقات متصلة حيث يقع استعمال المهربين في ترويج العملات المزيفة في إطار معاملاتهم التجارية باعتبار أن جل عملياتهم المالية تتم نقداً.

ويرى الخبير المالي أن تزييف العملة من أخطر الجرائم المالية والاقتصادية نظراً لتداعياتها على قيمة العملة، غير أنها لا تمثل أي خطر في تونس لمحدودية هذا الصنف من الجرائم، مشيراً إلى أن شبكات تزييف العملة تنشط أساساً في الدول التي تشكو من ضعف أمني وتفكك في أجهزة الدولة.
ويشدد القانون التونسي العقوبات على مزوري العملة أو مروجيها ومستعمليها بعقوبات سجن تصل إلى 20 سنة إضافة إلى غرامات مالية تقدر حسب نوعية الجرائم وتوفر أركان الجريمة.

بدوره، يرى الخبير المالي التونسي، وليد صالحي، أن عمليات تزوير العملة في تونس لا تصنف ضمن العمليات كبيرة الحجم ولا يمكن أن تؤثر على التوازنات المالية للدولة، مشيراً إلى أن تونس يمكن أن تكون أيضاً منطقة عبور للعملات المزيفة نحو العديد من البلدان الأفريقية. وأضاف ذات المتحدث لـ "العربي الجديد" أن سيطرة الاقتصاد الموازي على 54% من النشاط في البلاد يمكن أن تساهم بشكل كبير في تداول العملات المزيفة بمختلف أصنافها، باعتبار أن العملات المالية المنظمة في الاقتصاد الرسمي تمر عبر المصارف التي تكشف سريعاً العملات المزيفة، ما يجعل تداول هذا الصنف من الأموال منحصراً في فضاء مغلق بين الإرهاب والتهريب.
ولا ينفي الصالحي، في ذات السياق، أن الخطر يبقى قائماً في ارتفاع حجم تداول هذه العملة حتى في الأنشطة الموازية، لافتاً إلى أن استيعاب جزء من الاقتصاد الموازي سيحدُّ من تداول كل أشكال الأموال القذرة والمزيفة.

ترجيحات جزائرية

وفي الجزائر، تشير تقارير إلى أن تردد التونسيين إلى مدينة العملة (300 كلم شرق العاصمة) من أجل شراء مختلف السلع من سوق "دبي" المشهور بعرض سلع صينية، بات مصدر رزق إضافي لبعض المستوردين، الذين لجأوا إلى حيلة أقل ما يقال عنها إنها غير مألوفة، تتمثل في صك العملة التونسية في الصين وإعادة بيعها للتونسيين.
"سوق دبي" بمدينة العلمة التابعة لمحافظة "سطيف" والذي ينشط فيه أكثر من 800 تاجر، لم يعد يموّن الجزائر وتونس بمختلف السلع الإلكترونية والملابس المستوردة من الصين، بل تعداها وأصبح يوفر خدمات أخرى موازية تكشف عن حجم تغول مافيا الاستيراد في البلاد، فبعد أن انتشر الدينار الجزائري المقلد أصبح الدينار التونسي المقلد يُعرض كسلعة يتم تداولها، وفق ما أكدته مصادر لـ "العربي الجديد".

أحد الشباب الناشطين في "سوق دبي" ويدعى "سمير.ك"، يكشف بعض التفاصيل في حديث مع "العربي الجديد"، قائلاً: "العملية تتم في دائرة مغلقة تنطلق بتحديد الطلبية من الطرف التونسي، فيقوم بعدها الطرف الجزائري الذي هو في الأصل رجل أعمال ناشط في مجال الاستيراد، بجمع كل الطلبيات ونقلها بنفسه أو عن طريق وسيط إلى الطرف الثالث، وهو الطرف الصيني الذي يكون قد تلقى قبل أشهر نماذج عن قطع نقدية من الدينار التونسي".

ويتابع سمير: "بعدها يتم شحن الأموال المقلدة رفقة سلع أخرى في حاويات كبيرة وذلك قصد التمويه، إذ يقوم المستورد بتصريح السلع المستوردة رفقة الأموال المقلدة، لدى البنك ومصالح الجمارك". وكشف نفس المتحدث أن "العملية لا تتم دون مشاركة أطراف في الجمارك الجزائرية تؤمن الطريق".
وعن هامش الربح، يوضح التاجر الجزائري أن "التكلفة لا تتعدى ثلث القيمة الحقيقية للقطعة الواحدة على أن تباع بحوالى نصف ثمنها أو أقل بقليل".

أما عن كيفية الدفع، فيقول: "الدفع يفضل أن يكون بالعملة الصعبة ويتم خارج البلاد، أي أن يتلقى الطرف الجزائري أمواله في إحدى العواصم الأوروبية حتى يضمن إخراجها من الجزائر دون مخاطر كبيرة، وإذا تعذر ذلك يتم الدفع في تونس ويتم ضخ تلك الأموال في حسابات بنكية".
ولفت سمير.ك إلى أن "الدينار الجزائري المقلد كان يتداول في السابق حيث بلغ سعر القطعة النقدية من فئة 100 دينار حوالى 30 إلى 40 دينار، أي أن المشتري يستفيد قرابة 60 ديناراً في المائة دينار".

وتترجم هذه الرواية حجم الفساد الذي نخر الاقتصاد الجزائري، خاصة أن أغلب السلع المتداولة في السوق الجزائرية، مقلدة ولا تتوافق مع المعايير الدولية، إلا أن مستوردين ينجحون في إدخالها عبر الموانئ بطرق قانونية وتحت أعين الأجهزة الرقابية من جمارك وممثلين عن وزارة التجارة والبنك المركزي.

تحقيق رسمي

وعلمت "العربي الجديد" من مصدر أمنى بمحافظة "سطيف"، فضل عدم الكشف عن هويته، أن "النائب العام أمر بفتح تحقيق إثر تداول أخبار بتواجد نشاط لجماعات منظمة مختصة في تهريب الدينار المقلد إلى التراب الوطني والتي يعتبرها القانون الجزائري جريمة اقتصادية من الدرجة الأولى".
وأضاف نفس المصدر أن "التحريات الأولى كشفت عن تورط بعض الأسماء المعروفة في مدينة العلمة، بالإضافة إلى الاشتباه في تورط بعض المسؤولين في الجمارك الجزائرية، وينتظر أن تكشف الأيام القادمة تفاصيل بعد التنسيق مع القضاء التونسي".

وسبق أن شهدت موانئ الجزائر عدة حالات غريبة لعمليات الاستيراد، كان أشهرها الكشف عن وجود "حصى" داخل حاويات صُرّح لمصالح الجمارك على أنها تحتوي على ملابس أطفال، كما تم إيجاد محركات سيارات مستعملة تم التصريح على أنها أدوية، فيما تبقى أشهر عمليات الاستيراد غرابة هي استيراد "القمامة" من إيطاليا والتصريح لدى الجمارك أن الحاويات تحتوي على آلات موجهة لمصانع النسيج. إلا أن اللافت في هذه القضايا أنها سرعان ما طويت ولم يتم الكشف عن مصير المتهمين فيها.
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي الجزائري، جمال نور الدين، إن تداول العملة التونسية المقلدة في الجزائر هو دليل على أن المستوردين باتوا لا يخافون من العقاب لأسباب عدة، أبرزها يكون تورط جهات رسمية في هذه العمليات المشبوهة وهو ما يعطيهم غطاء يحميهم من أي متابعة قضائية.

وأضاف لـ "العربي الجديد" أن سوق دبي تعتبر نموذجاً فقط عن حجم الفساد الذي بات ينخر الاقتصاد الجزائري والذي استفحل نتيجة غياب الدولة بمفهومها الرمزي، إذ لا يمكن أن تفرض مافيا الاستيراد منطقها الخارج عن القانون لو كانت هناك مؤسسات رسمية تعمل على تطبيق القانون.
وقال إن المستوردين نجحوا في إغراق السوق بالمواد المقلدة التي تكلف سنوياً الخزينة العمومية قرابة 2.5 مليار دولار خسائر وتهريب الأموال عبر تضخيم فواتير الاستيراد.



المساهمون