يمسك الستّيني موسى سمور بيده اليسرى أنبوباً زجاجياً، وفي يده اليُمنى حقنة كبيرة معبأة بـ "الزيت العطري" عالي التركيز، يضع بعضاً منها ويكمل تعبئة الزجاجة بنسبة من "الكحول الطيارة" الممزوجة بـ "المثبّت العطري".
تلك العملية يكررها بائع العطر الفلسطيني سمور، الشهير باسم "الجِد"، في كل لحظة يطرق فيها زبون باب محله الذي يتوسط ميدان فلسطين وسط مدينة غزة، طالباً عطراً يدَوي التصنيع، فتركب النسب مباشرة، وفقاً للنوع والاسم المطلوبين.
مهنة بيع وتركيب العطور انتشرت في العقدين الأخيرين بشكل لافت، نظراً للإقبال الكبير على اقتناء مختلف أصناف العطور الزيتية والكحولية، وذلك لتوافر معظم الأسماء والأنواع المطلوبة، إضافة إلى سعرها الرخيص والمتناسب مع ظروف المواطن الفلسطيني الصعبة.
ولم يقتصر بيع العطور على المحال التجارية الكبيرة والمزيّنة باليافطات المضيئة فقط، بل فتح بعض الباعة "بسطات" شعبية في مداخل الأسواق ومفترقات الطرق والجامعات والمدارس لتركيبها وبيعها، ما ساهم في توفير العشرات من فرص العمل.
"مهنة خفيفة ونظيفة وسهلة".. بهذه الكلمات يصف البائع "الجد" مهنة بيع وتركيب العطور التي امتهنها قبل نحو عشرين عاماً، مضيفاً "لعبت الصدفة دوراً هاماً في بداية مهنتي، عندما خرجت من السعودية وتوجّهت إلى عمان، وجذبني بائع يركب العطور بطريقة جميلة".
ويضيف لـ"العربي الجديد": "منذ ذلك الوقت، قررت الرجوع إلى قطاع غزة وبيع العطور إلى بعض المحال التجارية. كان الأمر مرهقاً في البداية، فقررت فتح محل خاص للتركيب وسط مدينة غزة، لم يكن في ذلك الحين يوجد الكثير من باعة العطور، كانوا يُعدون على الأصابع لندرتهم".
ويتابع الجد حديثه وقد صُبغت نبرة صوته بحب مهنته: "في بادئ الأمر كان الربح وفيراً لحداثة البيع، لكن في ما بعد بدأت الجدوى تقل، بعد انتشار المحال والبسطات التجارية"، مستدركاً: "لكن ذلك لا ينفي أنها من أحب وأفضل المهن إلى قلبي".
يعتمد تركيب العطور بشكل أساسي على الزيوت العطرية "الأصانص"، والكحول المثبتة، والفوارغ الزجاجية مختلفة الأحجام والأشكال، هكذا يقول الجد، مضيفاً: "حصار قطاع غزة وإغلاق المعابر يؤثر بشكل كبير على عملنا، حيث يؤخر دخول البضائع".
ويواصل: "كذلك يقوم الاحتلال الإسرائيلي بتعطيل وعرقلة الفحوصات التي تجري على أصناف العطور التي تدخل إلى قطاع غزة، إضافة إلى فرض جمارك عالية على البضائع التي تدخل من معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي، لتصل إلى 50 شيكلا (13 دولاراً) على لتر الزيت العطري الواحد".
"الجد" يختتم حديثه لـ"العربي الجديد" قائلاً: "رغم كل المصائب والصعوبات التي يمر بها الشعب الفلسطيني بشكل عام، وأهالي قطاع غزة بشكل خاص، إلا أنهم يؤكدون مراراً للعالم أنهم ما زالوا يعشقون الحياة، وتفاصيلها، يرشون على ملابسهم العطر، وداخل قلوبهم عشق لا ينتهي لفلسطين التاريخية السليبة".
ويكتظّ الطريق الممتد من سوق فراس إلى سوق الزاوية وسط مدينة غزة بعدد من محال وباعة العطور يدوية التركيب، كذلك تزين الزجاجات الملونة وأنواع العطور الفواحة، الطرقات المؤدية إلى ميدان فلسطين، إضافة إلى عدد من المناطق التجارية الأخرى.
ويقول البائع أبو سلامة بدرية (38 عاماً)، وهو صاحب إحدى البسطات الشعبية التي وقف أمامها عدد من الزبائن، "تركيب العطور مهنة مجدية وجميلة، لكنها تتعرض، مثل باقي الحِرف، لبعض الركود في أواخر الشهر وأوقات الأزمات المالية".
ويشير بدرية لـ"العربي الجديد" إلى أنّ الإقبال يزيد على شراء العطور في المناسبات ومواسم المدارس والجامعات والأعياد، مضيفاً أنه بدأ العمل بها منذ خمس سنوات، لكن العمل في السابق كان أفضل، نتيجة عدم انتظام رواتب الموظفين والأزمات المتكررة التي يمر بها أهالي قطاع غزة.
ويوافقه الرأي إسماعيل أبوالخير، وهو بائع آخر يجوب بعربته المتنقلة أزقة وممرات سوق الزاوية، حاملاً معه الأدوات اللازمة لتركيب الزجاجات العطرية في الصندوق الزجاجي، لافتاً إلى أنه اتجه إلى تلك المهنة بعد أن توقف عن العمل في التشييد نتيجة إغلاق المعابر.
ويضيف لـ"العربي الجديد": "أحب العطور منذ صغري، وكنت أهوى اقتناءها. وبعد توقفي عن العمل، اشترى لي والدي لتر زيت عطري وباقي أدواته اللازمة للتركيب، ونصحني بالبيع داخل السوق، وبعد فترة أصبحت لي عربة يمكنني من خلالها توفير مصروفي، وأطمح إلى فتح محل خاص بي".