تركيا بين الكمالية والغولنة

28 يوليو 2016
الفكر لا يمكن مواجهته إلا بالفكر (فرانس برس)
+ الخط -
بعد وفاة كمال أتاتورك عام 1938 ولدت في تركيا مرحلة مدنية إلا أنها كانت تعاني من تبعات التحولات الجذرية التي قادها أتاتورك، وقد تميزت هذه المرحلة بتأسيس عدد من الأحزاب السياسية وولادة التجربة الديمقراطية، إلا أن الجيش جعلها ولادة خديج حينما انقلب على حكومة عدنان مندريس 1960م، ثم تلته عدة انقلابات خلال الأعوام 1971 و1980 و1997، حتى وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في أواخر عام 2002م، فقاد إصلاحات كبرى في مجالي الاقتصاد والحريات ساهمت في تنامي شعبيته داخليا، ثم بدأ في مفاوضاته للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فساهمت هذه العوامل في تحجيم دور الجيش وتقليص نفوذه، والجدير بالذكر أن فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 كان بدعم إعلامي واقتصادي كبيرين من حركة فتح الله غولن التي تحالفت مع الحزب، إذ رأت فيه الممثل السياسي الذي سيحمي أنشطتها ويدعم نفوذها داخل مؤسسات الدولة، وهو ما حدث بالفعل، فقد تعزز نفوذ أفراد حركة غولن في القضاء والأمن والتعليم.


بدأت تسوء علاقة حركة غولن وحكومة حزب العدالة بعد استدعاء الادعاء العام لرئيس الاستخبارات هاكان في مطلع 2012، بسبب مفاوضاته السرية مع حزب العمال الكردستاني، وهذا التصرف جعل حكومة العدالة والتنمية تراه محاولة استهداف لها من قبل أفراد حركة غولن النافذين في الشرطة والقضاء، ثم تبع هذه الحادثة قضايا أخرى تستهدف الحكومة كان خلفها أعضاء حركة غولن.

إن البحث في تفاصيل أهداف حركة غولن السياسية تكتنفه هالة من الغموض والسرية، فللحركة أعمال خدمية اجتماعية ظاهرة ولها تأثير واسع، إلا أن أهدافها السياسية غير واضحة.

أتفهم تأسيس عمل سياسي سري في الدول المستبدة ذات النظم القمعية التي لا تسمح بالممارسة السياسية لأي حزب سواها، لكن في تركيا هذا غير مفهوم وكل المعطيات كانت متاحة لحركة غولن لتمارس عملاً سياسياً علنياً حتى قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، وفي الحقيقة فإن رغبة الحركة في السيطرة على مفاصل الدولة العميقة تصرف غير مفهوم أيضاً إلا في سياق الصراع مع الدولة الكمالية العميقة وهو ما لم يحدث، أو هو ما أخطأت فيه الحركة فقد تصادمت مع حكومة العدالة والتنمية، ففتحت على نفسها أكثر من جبهة وخسرت الحليف الأقرب والأقوى، ثم انتهى هذا التحالف بالانتصار الكاسح لحكومة العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية عام 2014م، وكانت النتيجة مفاجئة لأعضاء الحزب قبل منافسيهم.

إلى ما قبل هذه الانتخابات كان نفوذ حركة غولن في ذروته، الملفت حقا هو تعامل حركة غولن الشرس مع كل من يصطدم بها وهو ما عبر عنه الصحافي أحمد شيك بقوله "كل من يلمس حركة غولن يحترق" فأي شخص يكتب عن الحركة نقداً أو أي محاولة لكشف نفوذها يتعرض للإيذاء، وربما تلفق له التهم كما حصل مع الصحافيين الاستقصائيين (نديم شينر وأحمد شيك) عام 2011، فقد لُفقت لهما تهمة دعم إعلامي لمحاولة التخطيط لانقلاب ضد حكومة العدالة والتنمية! والحقيقة أن شينر ألف كتاباً يعرض فيه نفوذ حركة غولن في مؤسسات الدولة، والآخر كان قد انتهى من مسودة كتاب استقصائي ناقد للحركة إلا أنه قُبض عليه ولفقت له التهم قبل النشر، وكانت هذه القضية فرصة للكماليين حينها ليشنوا هجوما حادا على غولن وحركته.

سياسيا يمكن وصف حركة غولن بالبراغماتية وهي كغيرها من الحركات الإجتماعية التي تحاول أن تقترب من السلطة أياً كانت وجهتها لتحمي أنشطة الحركة، ويبدو هذا جليا منذ انقلاب 1980م الذي باركته حركة غولن رغم أن الجيش قتل آلاف المدنيين، ومن هنا كانت بداية تغول أفراد الحركة في الدولة.

رغم هذا كله، أشكك في أن الحركة قادت محاولة الانقلاب الأخيرة، لكنها بكل تأكيد ساهمت فيه وأيدته، تاريخ تركيا حافل بالانقلابات العسكرية.

والانقلاب الأخير هو امتداد لهذه السلسلة وأقرب لها، لم يكن في صالح حكومة أردوغان أن توجه التهم للجيش مباشرة، فصوبت سهامها نحو العدو الأقرب والأسهل في المواجهة على المدى القريب، فكسبت في صفها قيادات الجيش وجنوده الذين لم يتورطوا في محاولة الانقلاب أو على الأقل حيدتهم.

الحقيقة أن طريقة "التطهير" التي اتخذتها الحكومة مع أفراد حركة غولن مخيفة ومزعجة، وهي غير عملية، فالفكر لا يمكن مواجهته إلا بالفكر، نعم لمحاسبة كل متورط في محاولة الانقلاب أما إيقاف الأكاديميين وإلغاء وظائف آلاف المدنيين لمجرد انتمائهم لحركة غولن، فهي مؤشرات موجة مكارثية جديدة، ولا أعتقد أنها خطوات لتعزيز الديمقراطية ولا يمكن القضاء على أي حركة فكرية بهذه الطريقة.

لا أخفي سعادتي بفشل الانقلاب، وهي سعادة لانتصار الديمقراطية ولقيمة الإنسان وإرادته الحرة، كما لا أخفي توجسي من ردة الفعل التي تشبه الطوفان الذي قد يغرق الجميع فلا نوح هنا ولا سفينة.

(السعودية)
المساهمون