تركيز ترامب على مواجهة الصين يترك أوروبا وحيدة بوجه روسيا

29 يونيو 2020
تدرك أوروبا اليوم ضرورة الاعتماد على نفسها(بيتر نيكولز/فرانس برس)
+ الخط -

تعيش العلاقات الأوروبية-الأميركية هذه الأيام المرحلة الأصعب منذ دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض، في يناير/ كانون الثاني 2017.

وبالنسبة إلى الجانب الاستراتيجي العسكري في حلف شمال الأطلسي، فإن سياسات ترامب خلال سنوات حكمه، التي يبدو أنها تمرّ هي الأخرى بشكوك كثيرة حول استمرار سكنه في البيت الأبيض، أدّت إلى كثير من التراجع في قوة علاقة ضفتي الأطلسي ومتانتها.
وبرأي الأوروبيين، إنّ إعلان ترامب نيته سحب نحو 10 آلاف عسكري من ألمانيا، لم يأتِ فقط لمعاقبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي شكلت تحدياً حقيقياً كشريك صلب للأميركيين، بل جاء كخطوة تحمل مخاطر للقارة العجوز بوجه روسيا، التي باتت خلال رئاسة فلاديمير بوتين، التي يبدو أنها مستمرة إلى 2036، تشكل تحدياً لمصالحهم.
وما يثير القلق الأوروبي، أن واشنطن شهدت تحولاً منذ عام 2017 في اختيار حلفاء أوروبيين أقرب إلى سياستها الخاصة في القارة. فتعزيز ترامب لعلاقته مع رئيس وزراء بولندا ماتيوس مورافيسكي، والحزب القومي المحافظ الحاكم "القانون والعدالة"، والرئيس أندريه دودا، لا يريح برلين، إذ إنّ ساسة وارسو متهمون بانتهاج سياسات تتناقض مع القيم الأوروبية، التي يقوم عليها العمل المشترك والاتحاد الأوروبي عموماً، هذا إلى جانب العلاقات الوثيقة مع رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان.

في ذاكرة الألمان ما يعزّز القلق من سياسات ترامب. فزيارته الأوروبية، بعد تولي الرئاسة، كانت باتجاه وارسو، وليس برلين. وبالمناسبة، فإنّ دودا، المرشح لرئاسة البلد مرة أخرى، زار ترامب قبل نحو أسبوع من انتخابات 28 يونيو/ حزيران، وتلقى دعماً علنياً منه، التي لم تُحسم نتائجها لمصلحته في الجولة الأولى.
ومنذ انتهاجه سياسة "2 في المئة" في موازنة دفاع دول "الناتو"، اتجه ترامب نحو استبدال العلاقة "القوية والصلبة" بين واشنطن وبرلين، بعلاقة أوثق بوارسو وبودابست وبعض دول البلطيق.
وعلى الرغم من أن ترامب برّر نقل قوات إلى بولندا بـ"تعزيز الوجود العسكري بجوار روسيا"، على الحدود الغربية لبولندا وقرب الجيب الروسي في كالينينغراد، هذا بالإضافة إلى قوات "الناتو" المنتشرة في ليتوانيا قرب الجيب نفسه، إلا أن الأوروبيين يرون الأمر بطريقة مختلفة. فقد كشف تقرير "آي بي سي نيوز" الأميركية يوم 24 يونيو/ حزيران، عن أسباب أخرى لنقل القوات الأميركية من ألمانيا، يسوّق لها ترامب في استراتيجية جديدة يؤيده فيها البنتاغون، وتركز على تغيير استراتيجي في انتشار القوة الأميركية بمواجهة الصين، مع تزايد التوتر بين واشنطن وبكين منذ تفشي وباء كورونا.

وما تعنيه الخطوة الأميركية، التي تترك الأوروبيين في حيرة، أن المحيط الهادئ، وليس الأطلسي، هو بؤرة الاهتمام الأميركي الآن. ويحاول ترامب أن يلزم أي رئيس مقبل، في حال خسارته الانتخابات بعد أشهر قليلة، بذات السياسة.
وبهذا المعنى، يقرأ محللون أوروبيون أن توجه ترامب لخفض عديد القوات الأميركية في أوروبا إلى نحو النصف، من نحو 52 ألفاً إلى 25 ألف جندي، سيضع أوروبا أمام واقع جديد ومختلف في ما يتعلق باحتواء أوروبي منفرد لروسيا، أي تحويل الأمر إلى "قضية إقليمية أوروبية"، من دون أن تبقى أولوية أميركية.


وعلى الرغم من العلاقة الودية التي تربط ترامب بساسة وارسو، وخصوصاً رئيسها دودا، ورئيس الوزراء مورافيسكي، إلا أنه لا يبدو أن مغريات بولندا، ومنها إطلاق اسم "فورت ترامب" على قاعدة عسكرية، أقنعته بنشر 10 آلاف جندي لمواجهة مخاوف الشارع البولندي من روسيا.
وعلى الرغم من أن البولنديين متفقون مع ترامب منذ سنوات على عرقلة مشاريع روسية لنقل الغاز نحو أوروبا، كمشروع "سيل الشمال 2"، وفتح موانئهم أمام الغاز الأميركي المسال نحو القارة، بحسب موقع "ديفنز نيوز"، إلا أن الرجل يصرّ على تغيير استراتيجيته بجعل القضية الروسية مسألة أوروبية.
وثمة مخاوف كبيرة يثيرها أعضاء الحلف في شرق القارة وشمالها، بشأن التحركات العسكرية الروسية، التي تراقب من كثب الخطوة "الترامبية". وقد لا يكون سحب بضعة آلاف من الجنود الأميركيين غير ذي معنى بالنسبة إلى موسكو، فهي تزيد أكثر تحركاتها في المنطقة القطبية الشمالية والبلطيق واسكندينافيا، هذا إلى جانب نشرها المزيد من التعزيزات الروسية في كالينينغراد، واستعراضها عضلات بحرية وجوية في المناطق المشار إليها، بمناورات أقلقت النرويج والدنمارك وفنلندا ودول البطليق. وبدأت السويد، الدولة غير العضو في "الناتو"، تتحرك بعيداً عن سياسة "الحياد"، لتدخل في تحالفات وتعاون مع حلف شمال الأطلسي، والسماح لجارتها كوبنهاغن بالتحليق العسكري فوقها، لمواجهة السوخوي الروسي، من دون إذن مسبق، بعد تزايد الطلعات الروسية فوق اسكندينافيا، أو عند حدود مجالها الجوي.
إذاً، القلق الأوروبي، الذي يبدو أحياناً مكتوماً وفي أحيان أخرى يعبّر عنه قادة وساسة سابقون، مثل الأمين العام السابق لـ"الناتو" أندرس فوغ راسموسن، الذي اعتبر السياسة الأميركية الجديدة تخبطاً مضراً بالقارة وبالحلف، لم يخفف منه تأكيد واشنطن أن نشر 10000 جندي في بولندا يعني الالتزام الأميركي في البقاء في أوروبا وفي احتواء الخطر الروسي.
وفي الاتجاه، قرأ مستشار الأمن القومي لترامب، روبرت أوبراين، المخاوف الأوروبية، مؤكداً لـ"وول ستريت جورنال" يوم 26 يونيو/ حزيران الحالي، أن سحب القوات من ألمانيا لا يعني تخلياً عن أوروبا. وساق أوبراين المسألة في سياق "تعزيز الوجود العسكري الأميركي قرب الصين". وفي ذات العدد من "وول ستريت جورنال"، كانت بكين تقرأ التحرك الأميركي، ولو من بوابة ما يجري في هونغ كونغ، محذرة واشنطن من تجاوز ما سمته "خطوطاً حمراء".


بالمحصلة، تدرك أوروبا اليوم ما أدركته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قبل سنوات حول ضرورة اعتماد الأوروبيين على أنفسهم، بعد توتر العلاقة مع واشنطن في ظل ترامب. ولا يبدو أن تغيير ساكن البيت الأبيض، سيغير كثيراً من هذه الاستراتيجية الأميركية الواضحة بإيلاء اهتمام أكبر بالصين، وربما وجدت أوروبا نفسها مضطرة إلى انتهاج سياسة برلين التي كانت تفضل دائماً لغة الحوار مع موسكو، وهو ما طرحته أخيراً ومجدداً، المستشارة الألمانية، كخلاصة ربما لمستقبل العلاقة الأميركية-الأوروبية.
ومنذ عام 2017 يبدو الانسجام الفرنسي-الألماني، على خلفية توتر العلاقة مع واشنطن، يسير باتجاه تنسيق أكثر لما طرحه إيمانويل ماكرون عن تسليح أوروبي ذاتي، وتعاون بيني أوسع، وهو ما تتفق معه أيضاً المستشارة الألمانية، التي تجد دعماً داخلياً من مختلف الأحزاب في مواجهتها مع ترامب، الذي أبدى غضباً نهاية مايو/ أيار الماضي من رفض ميركل الذهاب إلى قمة "جي 7" (مجموعة الدول السبع)، وليأتي إعلانه بداية الشهر الحالي عن سحب القوات الأميركية كخطوة تنمّ عن غضب وعن تنفيذ استراتيجية أخرى، ستتكشف أكثر مع الأيام والأسابيع المقبلة، في المواجهة الصينية الأميركية.

المساهمون