"إيران لن تمتلك أبداً السلاح النووي"، كما حذر ترامب أمس، ثم استدرك ليقول إن الباب مفتوح لـ"التباحث في هذا الموضوع مع أي كان.. ومن يدري ما قد يحصل بنتيجة مثل هذه المحادثات؟".
وكان ترامب في أواخر الأسبوع، قد توقف عند هذه النقطة لكن بلهجة أشدّ، وهدّد بضربة إذا امتنعت طهران عن العودة إلى التفاوض: "لا أريد الحرب. لكن إذا وقعت فستكون ماحقة كما لم يحصل من قبل".
نفس المعزوفة سبق أن خاطب بها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، قبل أن يستبدلها بالودّ ّورسائل "المحبة" بينهما.
وللتلويح لإيران بانفتاحه على انعطافة مشابهة تجاهها، دعاها إلى "الحوار بدون شروط".
إشاراته متضاربة في ظاهرها لكن فحواها لا يخفى، فهو قرر العودة إلى البحث عن مخرج دبلوماسي. خيار يحظى بشبه إجماع في واشنطن، والرئيس يبدو أنه حسم استدارته في هذا الاتجاه، بل ثمة اعتقاد سائد بأنه من الأساس هو في هذا الموقع، لكن المتشددين في إدارته دفعوه نحو قرار الرد العسكري.
يدعم هذا الاعتقاد أن الرئيس نفسه غمز، وإن بصورة مبطنة، من زاوية "الصقور" في إدارته الذين ذكر من بينهم مستشار الأمن القومي جون بولتون بالاسم علناً ولأول مرة، وكأنه يحمّله شيئاً من مسؤولية التوريط في القرار، ثم في سحبه.
لكن ذلك لا يلغي أن الرئيس هو الذي شق الطريق بهذا الاتجاه قبل بولتون، ففي أكثر من أزمة لوّح بالثبور وعظائم الأمور لينتهي إلى التراجع، كما فعل في موضوع الطائرة.
آخرها كان قبل أيام حين هدد بالبدء بترحيل ملايين اللاجئين الموجودين على الأراضي الأميركية بصورة غير قانونية، وفي آخر لحظة قرر تأجيل الخطوة لأسبوعين. وقبلها حدّد موعداً لفرض تعريفة إضافية على البضائع المكسيكية، ليتراجع عن هذا الإجراء عشية الموعد.
صار نهج الرئيس الأميركي هذا نمطاً في التعامل "العشوائي" مع القضايا والأزمات، إلى أن بلغ المأزق الراهن الذي تحول إلى حديث الساعة في واشنطن، وإلى موضوع رئيسي يجري تداوله لا فقط في وسائل الإعلام وبرامجه الإخبارية، وإلى حد ما في الكونغرس، بل أيضاً في بعض مراكز الدراسات والأبحاث في واشنطن التي أفردت ندوات خاصة للحديث عن خلفياته واحتمالاته المحفوفة بالمخاطر.
فعودة الرئيس المتأخرة عن التصعيد لصالح الحوار، لا تضمن حلحلة الأزمة في المدى المنظور لأن محاولة التصحيح تعترضها عقبات كبيرة، "على رأسها انعدام ثقة الإيرانيين"، حسب أستاذ التاريخ بول بيلّر الذي شارك اليوم في ندوة "مركز المصلحة الأميركية" للدراسات في واشنطن.
ويقول بيلّر إنه كان على الرئيس أن يبدأ "لا بعقوبات جديدة بل بالعمل على العودة لتمديد الإعفاءات النفطية لسدّ الفجوة في صدقيته وبما يمهد إلى التفاوض"، فلا يكفي أن يعلن بأنه لا يريد الحرب.
"كلام من هذا القبيل تفسره طهران بأن الإدارة ما زالت تريد الإطاحة بالنظام لكن بدون حرب، "كما يرى كينيث بولاك المؤلف والباحث في مؤسسة "أميركان انتربرايز" للدراسات، الذي شارك في الندوة. ولذلك يجد أنه من الصعب "أن تقوم طهران بأي مبادرة تجاه واشنطن" في الوقت الراهن. الخطر ينبع من مسألتين: "تفاقم عملية الاختناق الاقتصادي في إيران بسبب العقوبات. ثانياً من العودة الإيرانية القريبة لاستئناف عملية تخصيب اليورانيوم بمعدلات تتجاوز تلك المحددة في الاتفاق".
العقوبات الجديدة بحد ذاتها رمزية، جاءت للتعويض قدر الإمكان عن إسقاط الطائرة والتراجع المحرج عن العملية العسكرية، الذي حظي بالثناء والترحيب في كل حال. لكن برغم رمزيتها تساهم في رفع منسوب ضغط العقوبات المرشحة لتقليص حجم الاقتصاد الإيراني بنسبة 6% للعام القادم. وضع لا تحتمله إيران. وقد يحملها على مواصلة التحرشات التي "لا ضمانة بدوام السيطرة عليها".
في ضوء ذلك، ثمة احتمال واحد يتردد أن نجاحه ممكن تحت ضغط خطر الانفلات، وهو نجاح الوسيط الدولي في اجتراح مخرج تقني يحفظ ماء الوجه للطرفين، بحيث يجري التفاوض على اتفاق ممددة نهايته لإرضاء الإدارة، مع تخفيف العقوبات على إيران أو اعتماد الصيغة الأوروبية للتبادل التجاري معها.
يعزز من ذلك أن "المرشد خامنئي لا يريد الحرب بالنهاية" كما يقول بيلّر وكثيرون غيره، وأن الرئيس ترامب ما كان هدفه من البداية سوى التوصل إلى اتفاق يحمل توقيعه وبشروطه. لكنه سلك الطريق الخطأ التي انتهت عند الحائط المسدود الراهن.