لكن هذه المرة خاطب ماكونيل وبعض قادة المجلس، بلغة رافضة تقرب من التأنيب مع المطالبة بالتراجع عن خطوة الانسحاب. وكأن الكيل طفح لديهم من تفرد الرئيس في الاتصال بالقيادات الأجنبية والتصرف على ضوء مشاوراته معها وليس مع المؤسسات الأميركية المعنية.
تكرار الممارسة في الآونة الأخيرة شكلت عبئاً عليهم في عام انتخابي صعب. دعوته لأوكرانيا والصين لفتح تحقيقات في شبهات مالية مزعومة ضد المرشح جو بايدن وابنه، أربكتهم. والآن جاءت خطوته إثر مكالمة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للانسحاب من "ساحة هامة وحليف أهم –الأكراد -"، ليفجر الاحتقان الجمهوري مع الديمقراطي ضده.
ردة الفعل فاجأته واضطرته إلى التلويح بالتراجع لتنفيس الضجة التي طغت سيرتها طوال النهار على موضع أوكرانيا وإجراءات "العزل" الجارية في مجلس النواب. فالموضوع حساس والقلق بخصوصه ينبع من الاعتقاد بأن الرئيس ترامب يتوسل الانسحاب "لترك سورية للروس".
رغبة كان سبق له وأشار إليها في سياق تعليله لقراره قبل حوالي سنة بسحب القوات الأميركية من سورية، من باب أن الوقت قد حان ليتحمل الآخرون وزر هذه الأزمة. آنذاك تدخل وزير الدفاع جيمس ماتيس والجهات الأمنية والاستخباراتية وأقنعوا الرئيس بعد الاصطدام معه، بالعدول عن الفكرة. تراجعه الاضطراري أدى إلى استقالة – إقالة كل من الوزير ماتيس والمبعوث الخاص برات ماكغورك.
الآن الظروف مختلفة، بدلاً من الوزراء، الكونغرس تصدى له. واللحظة لا تسمح له بمشاكسة هذا الأخير. تماسك الحزب الجمهوري حوله بدأ يتخلخل في وقت تسير فيه إجراءات "العزل" بصورة تثير قلق البيت الأبيض.
عدد من أعضاء مجلس الشيوخ أعرب علناً عن انتقاداته للرئيس وبما ينطوي على رغبة في الابتعاد عنه. صحيح أن غالبية المجلس من الجمهوريين لا تزال إلى جانبه. لكن لا ضمان لاستمرارها كذلك. تطور التحقيقات قد يؤدي إلى تغيير المعادلة، كما جرى مع الرئيس نيكسون. خاصة وأن الاستطلاعات تؤشر إلى تزايد نسبة المؤيدين في أوساط الرأي العام للاستمرار بإجراءات "العزل ". وربما يكون قد لجأ إلى موضوع الانسحاب الآن لتغيير الحديث وصرف الأنظار عن أوكرانيا – غيت.
لكن الاختيار فتح على ترامب معركة جديدة، سارع إلى استدراك عواقبها من خلال التلميحات والتسريبات عن احتمال سحب قرار الانسحاب غداً بصيغة غير مباشرة، كأن يصار إلى تعديله أو تجميده بمواكبة تأجيل العملية التركية أو خفض عيارها أو تمديد فترة إنذارها.
التكهنات كثيرة، لكن المؤكد أن القرار أثار معارضة واسعة في واشنطن والرئيس لا يقوى على تجاهلها. وقوف المرجعيات السياسية والعسكرية ضد قراره والغمز من زاويته بأنه يخدم "روسيا وإيران والأسد" كما قال السيناتور ماكونيل، وضعا الرئيس في موقف يفرض عليه التراجع بصورة أو أخرى، إلا إذا أصر على قراره واستنجد بالقاعدة الانتخابية المشتركة مع الجمهوريين لفرض التراجع عليهم.
وقوف المؤسسة بجناحيها الجمهوري والديمقراطي بصورة موحدة ولأول مرة ضد الرئيس ترامب، يؤشر إلى تحول قد يتبلور إلى تفاهمات على حساب رئاسته إذا ما استمر نبش خفاياها وتراكم أخطائها في وقت بدأت الرياح تجري بما لا تشتهيه سفينتها.