19 أكتوبر 2019
ترامب والعمل الدولي متعدّد الأطراف
هناك ثلاثة اتجاهات في العلاقات الدولية في مجال التعاون: الانعزالية والأحادية والعمل متعدّد الأطراف. وبما أن طبيعة التعاون الدولي ودرجته مرتبطتان بالأساس بالقوى الكبرى، تحديداً القوة الأولى في العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية، فإن مصير العمل الدولي متعدد الأطراف مرهون بإرادة الأخيرة. وتتجه أنظار العالم، لاسيما القوى الفاعلة فيه، إلى واشنطن، منذ تولي دونالد ترامب الحكم، لتخوفها من تنفيذه وعوده الانعزالية والأحادية، وعدم التزامه بالعمل الدولي متعدّد الأطراف، لإعلانه صراحة التراجع عن بعض التزامات الولايات المتحدة الدولية التي وقعت عليها إدارة أوباما.
هناك تخوفان دوليان من سياسة ترامب. يخص الأول جنوحه الانعزالي، وتبعاته على الأمن والاستقرار الدوليين، أي عدول أميركا عن دورها في بعض الأزمات، ما يجعل إمكانية تسويتها أو على الأقل الحد من تداعياتها صعباً. فيما يخص الثاني عدم اكتراث إدارة ترامب بالعمل الدولي متعدّد الأطراف، وبالطبع، السلوك الأميركي الأول امتداد للثاني.
ليست هذه المرة الأولى التي يدير فيها رئيس أميركي ظهره للعمل متعدّد الأطراف، رافعاً شعار "أميركا أولا". فبوش الابن عمل تقريباً بالسياسة نفسها، ولو لفترة وجيزة (لغزو العراق واحتلاله). والإشكالية التي يواجهها رؤساء أميركا، منذ أصبحت القوة الأولى في العالم، هي دائماً نفسها: كيف يمكن التوفيق بين العمل الانفرادي ومتعدّد الأطراف. والقاعدة المتبعة هي العمل وفق القضايا المطروحة، ومقتضيات المصلحة القومية الأميركية، مع العلم أن قوة أميركا تكمن أيضاً في العمل متعدّد الأطراف. لكن بعد "تدخلية" (ولو إلى حين) بوش الابن نحن اليوم أمام "انعزالية" ترامب، في وقت وصلت فيه العولمة وشبكة الظواهر العابرة للأوطان إلى مستوياتٍ غير معهودة، تجعل عملياً من الانعزالية والتحرّك الأحادي مسألتين في غاية من التعقيد.
تتخوف الدول الأوروبية (ما عدا بريطانيا) والصين والقوى الصاعدة (البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا)، و(تستثنى روسيا أيضاً من هذه القائمة ولو مؤقتاً)، من سياسة ترامب المناوئة للعمل
متعدّد الأطراف. وقد عبّرت مجموعة العشرين، المجتمعة على مستوى وزراء الاقتصاد، في بادن بادن الألمانية، الأسبوع الماضي، بمشاركة وزير الخزانة الأميركي، عن انشغالها وعن أملها في التزام أميركي بالتحرّك متعدّد الأطراف. وتتخوف الدول المشاركة من أن تفقد مجموعة العشرين معناها، في حال عزوف أميركا التي تتوجب مشاركتها لتسوية بعض القضايا العالقة (الفراديس الضريبية، ضبط عمل المنظومة المالية الدولية...)، تجنباً لتكرار أزمة 2008.
وهناك حالة ترقب، بل وارتباك على المستوى الدولي، بسبب التصريحات والإشارات المتناقضة القادمة من واشنطن. ففي وقتٍ تأتي فيه تصريحات ترامب بالوعد والوعيد، تأتي تصريحات معاونيه بالتطمينات، فمثلاً يقول وزير الخزينة إن بلاده لا تريد "حروباً تجارية". لكن، يبقى أن هناك تخوفاً دولياً من قطيعة أميركية في هذا المجال مع إدارة ترامب، مقارنة بإدارة سلفه. والسؤال الذي يؤرق مجموعة العشرين: هل ستبقي الولايات المتحدة على دورها في البنية الدولية متعدّدة الأطراف، أم ستنسحب منها عملياً، متبعة سياسة انعزالية-أحادية. وأيهما تصدّق أميركا ترامب أم أميركا ستيف منوشين (وزير الخزانة).
ومن الحجج التي تقول بها دول مجموعة العشرين النافدة، مثل ألمانيا والصين واليابان وفرنسا، لكبح جماح انعزالية ترامب وحمائيته، أن الاعتماد المتبادل بلغ مستوياتٍ غير مسبوقة، لم يعد ينفع فيها السلوك الأحادي والحمائي، ذلك أن تداخل العلاقات والمصالح وترابطها يجعل من الصعب الفصل بين "الوطني" و"الدولي". وهي حجة دامغة، لأن العالم أصبح عرضةً لارتدادات أية هزةٍ تحدث في منطقة ما. إذ سرعان ما تتداعى لها بقية الأرجاء. وهذا ما يعبر عنه بمفعول جناحي الفراشة، أي أن حدثاً "بسيطاً" في منطقةٍ ما تترتب عنه انعكاساتٌ كبيرة وفورية في مناطق بعيدة تماماً عن مكان وقوعه.
والمشكلة مع "وعود" ترامب وسلوكه أنه يضع علاقة الولايات المتحدة مع بعض القوى
الاقتصادية الكبرى، مثل الصين (ثاني اقتصاد في العالم) وألمانيا (ثاني مصدر في العالم) على المحك، وهذا ما يضر بمصالح الجميع، كما أنه يهدّد العمران الاقتصادي والمالي الدولي، والمتمثل في مؤسسات برتن وودس (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) ومنظمة التجارة العالمية، وهي مؤسساتٌ لعبت أميركا دوراً ريادياً في تأسيسها. بالطبع، استهداف إدارة ترامب الصين وألمانيا سببه اختلال الميزان التجاري لصالحهما، على حساب الولايات المتحدة التي تطالب منذ سنوات (حتى في عهد أوباما) بضرورة تصحيح اختلالاته.
بيد أن ترامب يريد تصحيح اختلالاتٍ باختلالات أخرى، أكثر خطورة، فقوة أميركا تكمن أيضاً في شبكة تحالفاتها (وهي من بين معايير الحكم على قوة عظمى في عالم اليوم) وعلاقاتها المتينة مع حلفائها، وفي قيادتها، أو على الأقل مساهمتها الفعالة في العمل الدولي متعدّد الأطراف. وبما أن أميركا هي الاقتصاد الأول في العالم، فإن ضرب منظومة العمل متعدّد الأطراف سيضر، في نهاية المطاف، بمصلحتها القومية التي يقول ترامب إنه يريد الدفاع عنها. ونظراً إلى تداخل المصالح القومية للدول، بسبب عولمة الاقتصاد والتهديدات والمخاطر، بما فيها البيئية، فإن الحلول الوطنية المعزولة لم تعد تنفع، كما أن استعداء الآخر (بما في ذلك الحليف) لا يحل اختلالات الاقتصاد الأميركي، بل قد ينشئ "جبهةً" دولية مناوئة للحمائية، ليس بالضرورة كرهاً في ترامب، وإنما خدمة للمصالح القومية للدول المعنية.
هناك تخوفان دوليان من سياسة ترامب. يخص الأول جنوحه الانعزالي، وتبعاته على الأمن والاستقرار الدوليين، أي عدول أميركا عن دورها في بعض الأزمات، ما يجعل إمكانية تسويتها أو على الأقل الحد من تداعياتها صعباً. فيما يخص الثاني عدم اكتراث إدارة ترامب بالعمل الدولي متعدّد الأطراف، وبالطبع، السلوك الأميركي الأول امتداد للثاني.
ليست هذه المرة الأولى التي يدير فيها رئيس أميركي ظهره للعمل متعدّد الأطراف، رافعاً شعار "أميركا أولا". فبوش الابن عمل تقريباً بالسياسة نفسها، ولو لفترة وجيزة (لغزو العراق واحتلاله). والإشكالية التي يواجهها رؤساء أميركا، منذ أصبحت القوة الأولى في العالم، هي دائماً نفسها: كيف يمكن التوفيق بين العمل الانفرادي ومتعدّد الأطراف. والقاعدة المتبعة هي العمل وفق القضايا المطروحة، ومقتضيات المصلحة القومية الأميركية، مع العلم أن قوة أميركا تكمن أيضاً في العمل متعدّد الأطراف. لكن بعد "تدخلية" (ولو إلى حين) بوش الابن نحن اليوم أمام "انعزالية" ترامب، في وقت وصلت فيه العولمة وشبكة الظواهر العابرة للأوطان إلى مستوياتٍ غير معهودة، تجعل عملياً من الانعزالية والتحرّك الأحادي مسألتين في غاية من التعقيد.
تتخوف الدول الأوروبية (ما عدا بريطانيا) والصين والقوى الصاعدة (البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا)، و(تستثنى روسيا أيضاً من هذه القائمة ولو مؤقتاً)، من سياسة ترامب المناوئة للعمل
وهناك حالة ترقب، بل وارتباك على المستوى الدولي، بسبب التصريحات والإشارات المتناقضة القادمة من واشنطن. ففي وقتٍ تأتي فيه تصريحات ترامب بالوعد والوعيد، تأتي تصريحات معاونيه بالتطمينات، فمثلاً يقول وزير الخزينة إن بلاده لا تريد "حروباً تجارية". لكن، يبقى أن هناك تخوفاً دولياً من قطيعة أميركية في هذا المجال مع إدارة ترامب، مقارنة بإدارة سلفه. والسؤال الذي يؤرق مجموعة العشرين: هل ستبقي الولايات المتحدة على دورها في البنية الدولية متعدّدة الأطراف، أم ستنسحب منها عملياً، متبعة سياسة انعزالية-أحادية. وأيهما تصدّق أميركا ترامب أم أميركا ستيف منوشين (وزير الخزانة).
ومن الحجج التي تقول بها دول مجموعة العشرين النافدة، مثل ألمانيا والصين واليابان وفرنسا، لكبح جماح انعزالية ترامب وحمائيته، أن الاعتماد المتبادل بلغ مستوياتٍ غير مسبوقة، لم يعد ينفع فيها السلوك الأحادي والحمائي، ذلك أن تداخل العلاقات والمصالح وترابطها يجعل من الصعب الفصل بين "الوطني" و"الدولي". وهي حجة دامغة، لأن العالم أصبح عرضةً لارتدادات أية هزةٍ تحدث في منطقة ما. إذ سرعان ما تتداعى لها بقية الأرجاء. وهذا ما يعبر عنه بمفعول جناحي الفراشة، أي أن حدثاً "بسيطاً" في منطقةٍ ما تترتب عنه انعكاساتٌ كبيرة وفورية في مناطق بعيدة تماماً عن مكان وقوعه.
والمشكلة مع "وعود" ترامب وسلوكه أنه يضع علاقة الولايات المتحدة مع بعض القوى
بيد أن ترامب يريد تصحيح اختلالاتٍ باختلالات أخرى، أكثر خطورة، فقوة أميركا تكمن أيضاً في شبكة تحالفاتها (وهي من بين معايير الحكم على قوة عظمى في عالم اليوم) وعلاقاتها المتينة مع حلفائها، وفي قيادتها، أو على الأقل مساهمتها الفعالة في العمل الدولي متعدّد الأطراف. وبما أن أميركا هي الاقتصاد الأول في العالم، فإن ضرب منظومة العمل متعدّد الأطراف سيضر، في نهاية المطاف، بمصلحتها القومية التي يقول ترامب إنه يريد الدفاع عنها. ونظراً إلى تداخل المصالح القومية للدول، بسبب عولمة الاقتصاد والتهديدات والمخاطر، بما فيها البيئية، فإن الحلول الوطنية المعزولة لم تعد تنفع، كما أن استعداء الآخر (بما في ذلك الحليف) لا يحل اختلالات الاقتصاد الأميركي، بل قد ينشئ "جبهةً" دولية مناوئة للحمائية، ليس بالضرورة كرهاً في ترامب، وإنما خدمة للمصالح القومية للدول المعنية.