ترامب.. هذه العنصرية

21 يوليو 2019
+ الخط -
لم يكُن مستغرباً أن يطلق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تغريدات عنصرية جديدة، فالرجل بنى خطابه السياسي، منذ ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2016، على عنصرية الرجل الأبيض، وأصدر بعد أن أصبح سيد البيت الأبيض قرارات عنصرية عديدة، إلى جانب تغريداته العنصرية، وتصريحات قرأها بعضهم تعبيرا عن سلوك الرجل في خطف الأضواء والاستعراض، وولعه بكسر المألوف. ولكنه تمادى هذه المرة، حينما طاولت تغريدة له عنصرية أربع نساء من الحزب الديمقراطي، عضوات في مجلس النواب الأميركي، ووصل به الأمر إلى حد مطالبتهن "بالعودة إلى بلادهن"، وجاءت تغريدة ترامب هذه بعد يوم من إعلان إدارته عزمها على القيام بحملات مداهمة ضد المهاجرين غير المسجلين، ما يعني أن الأمر ليس واحدةً من شحطات ترامب، أو من زلات لسانه، بل تعمّد استهداف كل من إلهان عمر ورشيدة طليب وألكسندريا أوكاسيو كورتيز وأيانا بريسلي، العضوات المنتخبات الأربع في مجلس النواب، والمنحدرات من أصول عرقية غير بيضاء، ودعاهن إلى الاهتمام بقضايا وشؤون بلادهن الأصلية "المحطمة والفاسدة"، وعدم السماح لأنفسهن بإعلام "الولايات المتحدة، القوة الأعظم في العالم، كيف تدار حكومتنا"، مع أن ترامب ربما لا يعي أن ثلاثا من الأربع في مجلس النواب ولدن وعشن حياتهن كلها في الولايات المتحدة، ولكن عنصريته المبنية على أحادية الرجل الأبيض وتفوقه وضعتهن جميعهن في خانة الآخر المختلف، والدوني المنحدر من أصول أفريقية وشرق أوسطية ولاتينية.
وقد تمادى ترامب في عنصريته هذه المرة، ولكن اللافت هو صمت أغلب أعضاء الحزب 
الجمهوري، بل ودفاع بعضهم عن عنصريته، مع أن تغريدته التي تواطأ القائمون على "تويتر" معه، ولم يحذفوها، كانت بمثابة فضيحةٍ تستوجب المطالبة بعزله عن الرئاسة، بدلاً من محاولات لفلفتها والتخفيف من وطأتها، على الرغم من أن ترامب عاد في اليوم التالي ليؤكد موقفه العنصري. وإذا كان مجلس النواب الأميركي لم يتأخر في الرد على ترامب، حيث وجّه تحذيراً رسمياً له، بالموافقة على قرار يدين عنصرية تغريداته، التي استهدفت أربعة من المشرّعات التقدميات، وأيد القرار 240 نائباً، فيما عارضه 177 نائباً على أساس حزبي، إلا أن المؤسف أن ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، لأن المطلوب هو الشروع في إجراءات عزل ترامب، والتي دعت إليها العضوات الأربع في مجلس النواب، وسبق أن دخلن في خلافٍ علني مع رئيسة المجلس، نانسي بيلوسي، بشأن الشروع في إجراءات العزل المباشر، وهنا السبب الأساس في استهداف ترامب العنصري المشرّعات التقدميات الأربع.
ولعل السؤال، المحيّر، والذي يطرح في هذا السياق: كيف تعلو نبرة الخطاب العنصري للرجل الأبيض، وتوظف سياسياً في البلد الأعظم الذي يرفع راية الدولة الأكثر تقدّماً وديمقراطية وتسامحاً، في حين أن رئيسه يبني خطابه على عنصرية بيضاء مع كل موسم انتخابي؟ والمحيّر كذلك ما يراه بعضهم أن ما يدعم لجوء ترامب إلى عنصريته البيضاء هذه دخول الولايات المتحدة سنة انتخابية ساخنة، فيجدون هذا الأمر مبرّراً للإفصاح عن عنصريّة ممزوجة باحتقار قيَم التسامح والعدالة وحقوق الإنسان، وبكراهية للنُخب السياسية والأحزاب ومؤسّساتها، بوصفه الرجل الأبيض القوي، الذي من حقه حكم البلد الأقوى في العالم، على الرغم من أنه شديد الفظاظة والسوقية والشعبوية، حتى في استخدام المصطلحات والتشبيهات، ويصدر عن نزعةٍ عنيفة، ولا يتردّد في الإفصاح عن تمسّكه بِقيم شديدة المحافظة والرجعية، وبات اليوم حاكماً لأكثر دولهٍ تمسّكاً بالديمقراطية التمثيلية.
ويصدر ترامب، في نظرته العنصرية، عن دعوى زائفة، يتحوّل فيها الرجل الأبيض، القوي المتفوق، إلى مفهوم متمثل أو تمثيلي، بناء على تصوراتٍ واهية، تنهض على تمركز ذاتي محاط بتمركزاتٍ عديدة داعمة له، الأمر الذي أفضى إلى الابتعاد عن الوجود المتعين للواقع المعاش، وغياب المعطى الواقعي للمفهوم، حيث تنسج مكوناته ومركباته وفق أشكالٍ متخيلةٍ ونمطية، تستلهم كل إمكانات التهميش والإقصاء والإلغاء للآخر المختلف، ليفقد المفهوم أي إمكانٍ للجدل والرأي والتواصل.
ويمتلك الخطاب العنصري لدى ترامب وجماعات اليمين المتطرّف، الأميركي والأوروبي، 
آليات اشتغال مفبركة، تنهض على ديماغوجيا الإثارة والتحريض، في عملية تمثله الآخر بصفة عامة، من خلال العمل على إبراز الأبعاد المتخيلة في هذا التمثيل، من حيث هي صور نمطية وأحكام ومواقف مسبقة، تشيطن الآخر وتجعله مسخاً، يجب التخلص منه بشتى الوسائل.
وبقدر ما ينهل الخطاب العنصري لديهم من خزان رمزي، يكثّف الوجداني والعقدي والقدسي، فإنه يتبلور في شكل تدخلاتٍ وإجراءاتٍ ومعارك غابرة. وقد أنتج هذا الخطاب العنصري طرقا زائفة لإدراك الآخر وتمثله، والتساؤل عما يعبّر عنه من إرادة للمعرفة بالآخر، في مختلف التمثيلات، الأمر الذي يطرح أسئلة محرجة أمام الفكر اليميني المتطرّف المنتج له، فكر المحافظين الجدد والقدامى، ولنمطه المهيمن، خصوصاً في هذه المرحلة التي تختلط فيها الرؤى والتصورات بالمصالح والرغبة في السيطرة على العالم.
ويستند خطاب ترامب العنصري الذي يقترب كثيراً من الخطاب الشوفيني والنازي، بل ويشبهه تماماً، إلى رؤية تتعامل مع الناس على أساس لون بشرتهم، حيث أصحاب بشرة اللون الأبيض هي المحببة لديهم، والمتفوقة على غيرها من الألوان، في عنصرية فاقعة، تنهض على بطريركية بيضاء صافية، وبالتالي على جميع عضوات مجلس النواب الملونات وسواهن عدم تحدّي فوقية الرجل الأبيض المتمثلة بالزعيم ترامب، والركوع أمامه، اعترافاً بتفوقه الزائف، وإرضاءً لغروره المخادع.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".