07 اغسطس 2024
ترامب قائداً للثورة المضادّة
في الوقت الذي تقف فيه الإدارة الأميركية على الحياد في الخلاف الكندي السعودي بشأن حقوق الإنسان، وتعيد فيه أميركا جزءا صغيرا للغاية من المساعدات العسكرية لمصر، كانت قد جمّدته بسبب مخاوف بخصوص حقوق الإنسان، تتحامل الولايات المتحدة على تركيا، وتفرض عليها عقوبات اقتصادية صادمة، لعدم إفراج سلطاتها عن قسّ أميركي يُحاكَم لديها، وكأن إدارة ترامب تقول، بشكل متزامن، إنها تقف في صف انتهاكات حقوق الإنسان والدول الاستبدادية، وضد حكم القانون والدول الأقل سلطوية في المنطقة. فمنذ تولي الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، مقاليد الحكم في بلاده، أعاد علاقاتها قوية بالديكتاتوريات العربية، ونقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس المحتلة، في تحدٍّ صارخ للقوانين الدولية، قبل حقوق العرب ومشاعرهم، وعقد صفقات سلاح بعشرات المليارات، في مزيدٍ من الاستنزاف للثروات العربية. وعلى الرغم من عدم حاجة المنطقة لكل تلك الأسلحة، وفي غياب أي جهد حقيقي لبناء نظام أمني إقليمي جاد برعاية أميركا المهيمنة على غالبية دول الإقليم.
كما أدارت أميركا ظهرها تقريبا لسورية وليبيا واليمن، وتقارب ترامب، بشكل مؤسف، مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، إلى درجة مطالبة المسؤولين الروس نظراءهم الأميركيين أخيرا بالمساهمة في إعادة بناء سورية تحت قيادة الأسد، كما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، بدون حتى التفاوض على بديل له، ودعم الحصار على قطر في بدايته، في صدمة للمؤسسات الأميركية نفسها.
وهذا لا يعني أن كاتب هذه السطور يتفق بشكل كامل مع سياسات تركيا أو إيران أو غيرها من دول المنطقة، فلكل دولة مصالحها وأخطاؤها، فهناك من يرى مثلا أن السياسات الاقتصادية
للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والتي ركّزت على الاقتراض والمشاريع العملاقة الممولة حكوميا لدفع معدلات النمو، وأهملت ارتفاع التضخم والديون، وضرورة موازنة الإنفاق، وأن أسلوبه السياسي الذي يتجه نحو مزيد من تركيز السلطة في شخصه، والموالين له، ساهموا في وصول الاقتصاد التركي إلى وضعه الحالي، كما أن إيران لعبت دورا شديد السلبية في القضاء على انتفاضة الشعب السوري ضد حكم بشار الأسد، وفي ما ارتكبه من جرائم في حق الشعب السوري.
أضف إلى ذلك أن أميركا ذات سياسة راسخة تاريخيا في دعم الديكتاتورية العربية، دفاعا عن النفط وإسرائيل، فلم تهتم عقودا بنشر الديمقراطية في العالم العربي، ولعبت دورا أساسيا في هزيمة الدول العربية في 1967، وفي إضاعة حقوق الشعب الفلسطيني، بسبب دعمها المفرط لإسرائيل.
ولكن يبدو أن السنوات الأخيرة أسقطت عن الحكومة الأميركية بعض الشعارات والأدوات التجميلية التي كانت تستخدمها في حربها ضد الشيوعية، أو للترويج الداخلي، أو لإبراء الذمّة أو تحت ضغوط النخب الأميركية الليبرالية المناصرة للديمقراطية والحريات، حيث تمرّ تلك النخب حاليا بمرحلة ضعف تاريخية، بسبب ميل الكفة ضدها داخليا، مع انتصار الرأسمالية وتمدّدها، وما ارتبط بها من صعود للقوى القومية والعنصرية واليمينية.
فخلال الحرب الباردة، ظلت الرأسمالية الغربية مقيّدة، خوفا من انتشار الشيوعية، لذا كانت حريصةً على رفع شعارات العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحريات ضد المد الشيوعي، حماية لمصالحها الداخلية والخارجية. ومع انهيار الشيوعية، تخلت الرأسمالية عن قيودها، وحلت عقالها داخليا وخارجيا، لتتمدّد بشراهة، بحثا عن الربح، وملحقة خسائر فادحة بالتوجهات المطالبة بالديمقراطية والحريات والمساواة داخل الغرب نفسه قبل خارجه. وعلى الرغم من تمدّد الديمقراطية خارجيا لحوالي عقدين، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولكن تراجع الديمقراطية دوليا في العقد الأخير بدأ في الغرب ذاته، بسبب هيمنة المشروع الرأسمالي، وما ارتبط به من جشع وشراهة في التعامل مع الطبقات الوسطى والفقيرة في الغرب وفي العالم، حتى أصبحت تلك الطبقات فريسةً للتوجهات اليمينية العنصرية، وخطرا على المشروع الرأسمالي نفسه، حيث تحول غضب الطبقات الفقيرة والمتوسطة في الغرب إلى وقود للتدمير الذاتي، بميلها إلى التوجهات الشعبوية، والتي جاءت بترامب إلى الحكم، وهي توجهات لا تبالي بالنظام الدولي الذي أسّسته أميركا والغرب منذ الحرب العالمية الثانية، أو بدعائم الديمقراطية الأميركية والغربية ذاتها.
وفي ظل تلك الهزيمة التاريخية، عجز الرئيس باراك أوباما عن تغيير سياسات الولايات المتحدة، وسعى، منذ اليوم الأول لحكمه، إلى التخلي عن برامج دعم الديمقراطية في العالم العربي. ولمّا قامت الثورات، لم يفعل ما يذكر لدعمها، بل حافظ على سياسات سلفه في إدارة ظهر بلاده للمنطقة، من خلال تسريع اكتشافات النفط الصخري الداخلية، ورفض التورّط في مشكلات الإقليم، والتي ساهمت أميركا وتساهم باستمرار في صناعتها من خلال استمرارها في دعم الاستبداد والاحتلال.
وفي لحظة خروج أوباما من الحكم، وبعد ثماني سنوات قضاها في البيت الأبيض، كانت الانتفاضات العربية تحتضر، خصوصا بعدما انقلب الجيش المصري على الديمقراطية، وعجزت الثورة السورية عن إطاحة الأسد، وبدأت في التراجع جغرافيا، ودخلت اليمن وليبيا في حروب أهلية لا نهاية لها في الأفق، ولم تنجح نسبيا إلا تونس البعيدة نسبيا عن قلب العالم العربي والنفط وإسرائيل.
أما ترامب فأدار دفّة السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط مجدّدا، ولكن ليس لنشر الديمقراطية أو الحريات أو تحقيق الاستقرار والسلام، ولكن تقريبا لنهب ثرواتها، من خلال عقد مزيد من الصفقات الاقتصادية والعسكرية العملاقة، تحت مطرقة الحماية الأميركية، وإطلاق يد اليمين الإسرائيلي المتطرّف في انتزاع أراضي الفلسطينيين وحقوقهم، ودعم الديكتاتوريات العربية المختلفة تحت قيادته، مع إطلاق أياديها إقليميا، وتقويض القوى الإقليمية المعارضة لتلك الديكتاتوريات، وللاحتلال الإسرائيلي، كتركيا وإيران.
في ظل تلك الظروف، لم تعد الإدارة الأميركية شريكا ضمنيا أو داعما تاريخيا للاستبداد
والاحتلال فقط، بل باتت فاعلا ناشطا وقائدا للثورة المضادة في العالم العربي، بوجهيها الأهم، الاستبداد والاحتلال. ولعل الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وتركيا، والعقوبات الأميركية التي فاقمت من أزمة تركيا الاقتصادية، أحدث أمثلة تدخل ترامب السلبي في المنطقة، فبدلا من أن تدعم أميركا تركيا، أو تدفعها بهدوء نحو مزيد من الديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقرار الداخلي والإقليمي، بصفتها شريكا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودولةً تعرف قدرا من الحريات والديمقراطية، تتدخّل الولايات المتحدة بشكل سلبي وصادم ضد الاقتصاد التركي، بسبب الخلاف حول ظروف اعتقال قس أميركي (معتقل منذ حوالي عامين)، وبغض النظر عن تبعات ذلك على استقرار تركيا واقتصادها ونظامها السياسي، في تدخل صدم حلفاء أميركا الأوروبيين، وفي مقدمتهم ألمانيا التي سارعت للتأكيد على أهمية استقرار تركيا.
ولعل العائد الإيجابي لما يحدث هو دفع القوى المعنية بالديمقراطية والسلام والحريات في العالم العربي وحول العالم (خصوصا في أوروبا)، لتحفيز عملية الانتقال إلى ما بعد العصر الأميركي، المستمر في الأفول منذ سنوات، بسبب صعود قوى دولية أخرى، كالصين وروسيا. وللأسف، لا تحمل تلك القوى أجندات ديمقراطية أو معنية بالسلام، لكن صعود ترامب يدفع القوى المتردّدة لعدم التمسّك بالعصر الأميركي المنحسر، وللانفتاح جدّيا على النظر في ما بعده، وعلى التقارب أكثر لحماية أنفسها في عالم ما بعد أميركا، ومن أميركا نفسها، والتي باتت عبئا دوليا في ظل إدارة ترامب. ولعل أزمة تركيا أخيرا بعد أزمة الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، والأزمة الخليجية، تقنع المتردّدين بضرورة الإسراع في البحث عن نظامٍ بديلٍ، يضمن أمنهم وأمن المنطقة بشكل أكثر جدّية وتوازنا.
كما أدارت أميركا ظهرها تقريبا لسورية وليبيا واليمن، وتقارب ترامب، بشكل مؤسف، مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، إلى درجة مطالبة المسؤولين الروس نظراءهم الأميركيين أخيرا بالمساهمة في إعادة بناء سورية تحت قيادة الأسد، كما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، بدون حتى التفاوض على بديل له، ودعم الحصار على قطر في بدايته، في صدمة للمؤسسات الأميركية نفسها.
وهذا لا يعني أن كاتب هذه السطور يتفق بشكل كامل مع سياسات تركيا أو إيران أو غيرها من دول المنطقة، فلكل دولة مصالحها وأخطاؤها، فهناك من يرى مثلا أن السياسات الاقتصادية
أضف إلى ذلك أن أميركا ذات سياسة راسخة تاريخيا في دعم الديكتاتورية العربية، دفاعا عن النفط وإسرائيل، فلم تهتم عقودا بنشر الديمقراطية في العالم العربي، ولعبت دورا أساسيا في هزيمة الدول العربية في 1967، وفي إضاعة حقوق الشعب الفلسطيني، بسبب دعمها المفرط لإسرائيل.
ولكن يبدو أن السنوات الأخيرة أسقطت عن الحكومة الأميركية بعض الشعارات والأدوات التجميلية التي كانت تستخدمها في حربها ضد الشيوعية، أو للترويج الداخلي، أو لإبراء الذمّة أو تحت ضغوط النخب الأميركية الليبرالية المناصرة للديمقراطية والحريات، حيث تمرّ تلك النخب حاليا بمرحلة ضعف تاريخية، بسبب ميل الكفة ضدها داخليا، مع انتصار الرأسمالية وتمدّدها، وما ارتبط بها من صعود للقوى القومية والعنصرية واليمينية.
فخلال الحرب الباردة، ظلت الرأسمالية الغربية مقيّدة، خوفا من انتشار الشيوعية، لذا كانت حريصةً على رفع شعارات العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحريات ضد المد الشيوعي، حماية لمصالحها الداخلية والخارجية. ومع انهيار الشيوعية، تخلت الرأسمالية عن قيودها، وحلت عقالها داخليا وخارجيا، لتتمدّد بشراهة، بحثا عن الربح، وملحقة خسائر فادحة بالتوجهات المطالبة بالديمقراطية والحريات والمساواة داخل الغرب نفسه قبل خارجه. وعلى الرغم من تمدّد الديمقراطية خارجيا لحوالي عقدين، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولكن تراجع الديمقراطية دوليا في العقد الأخير بدأ في الغرب ذاته، بسبب هيمنة المشروع الرأسمالي، وما ارتبط به من جشع وشراهة في التعامل مع الطبقات الوسطى والفقيرة في الغرب وفي العالم، حتى أصبحت تلك الطبقات فريسةً للتوجهات اليمينية العنصرية، وخطرا على المشروع الرأسمالي نفسه، حيث تحول غضب الطبقات الفقيرة والمتوسطة في الغرب إلى وقود للتدمير الذاتي، بميلها إلى التوجهات الشعبوية، والتي جاءت بترامب إلى الحكم، وهي توجهات لا تبالي بالنظام الدولي الذي أسّسته أميركا والغرب منذ الحرب العالمية الثانية، أو بدعائم الديمقراطية الأميركية والغربية ذاتها.
وفي ظل تلك الهزيمة التاريخية، عجز الرئيس باراك أوباما عن تغيير سياسات الولايات المتحدة، وسعى، منذ اليوم الأول لحكمه، إلى التخلي عن برامج دعم الديمقراطية في العالم العربي. ولمّا قامت الثورات، لم يفعل ما يذكر لدعمها، بل حافظ على سياسات سلفه في إدارة ظهر بلاده للمنطقة، من خلال تسريع اكتشافات النفط الصخري الداخلية، ورفض التورّط في مشكلات الإقليم، والتي ساهمت أميركا وتساهم باستمرار في صناعتها من خلال استمرارها في دعم الاستبداد والاحتلال.
وفي لحظة خروج أوباما من الحكم، وبعد ثماني سنوات قضاها في البيت الأبيض، كانت الانتفاضات العربية تحتضر، خصوصا بعدما انقلب الجيش المصري على الديمقراطية، وعجزت الثورة السورية عن إطاحة الأسد، وبدأت في التراجع جغرافيا، ودخلت اليمن وليبيا في حروب أهلية لا نهاية لها في الأفق، ولم تنجح نسبيا إلا تونس البعيدة نسبيا عن قلب العالم العربي والنفط وإسرائيل.
أما ترامب فأدار دفّة السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط مجدّدا، ولكن ليس لنشر الديمقراطية أو الحريات أو تحقيق الاستقرار والسلام، ولكن تقريبا لنهب ثرواتها، من خلال عقد مزيد من الصفقات الاقتصادية والعسكرية العملاقة، تحت مطرقة الحماية الأميركية، وإطلاق يد اليمين الإسرائيلي المتطرّف في انتزاع أراضي الفلسطينيين وحقوقهم، ودعم الديكتاتوريات العربية المختلفة تحت قيادته، مع إطلاق أياديها إقليميا، وتقويض القوى الإقليمية المعارضة لتلك الديكتاتوريات، وللاحتلال الإسرائيلي، كتركيا وإيران.
في ظل تلك الظروف، لم تعد الإدارة الأميركية شريكا ضمنيا أو داعما تاريخيا للاستبداد
ولعل العائد الإيجابي لما يحدث هو دفع القوى المعنية بالديمقراطية والسلام والحريات في العالم العربي وحول العالم (خصوصا في أوروبا)، لتحفيز عملية الانتقال إلى ما بعد العصر الأميركي، المستمر في الأفول منذ سنوات، بسبب صعود قوى دولية أخرى، كالصين وروسيا. وللأسف، لا تحمل تلك القوى أجندات ديمقراطية أو معنية بالسلام، لكن صعود ترامب يدفع القوى المتردّدة لعدم التمسّك بالعصر الأميركي المنحسر، وللانفتاح جدّيا على النظر في ما بعده، وعلى التقارب أكثر لحماية أنفسها في عالم ما بعد أميركا، ومن أميركا نفسها، والتي باتت عبئا دوليا في ظل إدارة ترامب. ولعل أزمة تركيا أخيرا بعد أزمة الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، والأزمة الخليجية، تقنع المتردّدين بضرورة الإسراع في البحث عن نظامٍ بديلٍ، يضمن أمنهم وأمن المنطقة بشكل أكثر جدّية وتوازنا.