تراث المنطقة العربية: النسخة الثانية من المغول

11 ديسمبر 2016
(الصراع السوري في مدينة تدمر، تصوير: جوزيف عيد)
+ الخط -
يتعرّض التراث الثقافي والتاريخي في سورية والعراق، إلى هجمة شرسة تهدده بالاندثار، فكما هو معروف فإن الشام وبغداد تعتبران مركزاً الثقافة والحضارة في المنطقة العربية، قبل وبعد الإسلام، ولكن هذا الموروث الثقافي والتاريخي يتعرّض للهدم من قبل برابرة هذا العصر.

مع الأسف الشديد، فإن المنطقة العربية التي نعيش فيها، والتي كانت تشكّل على مر العصور مركزًا لحضاراتٍ عدّة ومختلفة، يتعرض فيها الإنسان والتراث الثقافي اليوم لهدم لا يمكن تعويضه؛ إذ إن الحرب السورية التي أتمّت خمس سنوات، أسفرت حتى الآن عن وقوع أكثر من 470 ألف قتيلٍ، وأزيد من خمسة ملايين مهاجر، وما يفوق تسعة ملايين نازح، وكذلك العراق الذي يغرق اليوم في الحروب منذ عام 1980 ليس بحال أفضل من سورية.


تخريب ممنهج
منذ قيام الحضارة الإسلامية، فإن ما يحدث اليوم أمام أعيننا من أعمال تخريب وتدمير يعد ثاني أكبر عمل تخريبي بعد الحملة المغولية ضدّ بلاد المسلمين في القرن الثالث عشر، فقد تعرّضت فيها بغداد التي كانت تعدّ أهم مركز ثقافي في العالم للحرق والتدمير.

إن المنطقة العربية التي تقع وسط قارات العالم القديم آسيا وأفريقيا وأوروبا، تعدّ مهد الحضارات ومهبط الديانات السماوية؛ الإسلام والمسيحية واليهودية.

يُعد العراق حاضن أقدم حضارة عرفها التاريخ، وهي حضارة بابل، وأرض الشام حاضنة الثقافة الإسلامية وبلد مخترعي الأحرف الحديثة الفينيقيين، ومصر بلاد نهر النيل التي تعد بلد الثقافة الفرعونية القديمة. حافظت هذه البلدان الثلاثة على مكانتها التاريخية بعد مجيء الإسلام، إذ إن العراق المتمثّل في بغداد وسورية المتمثلة في دمشق ومصر المتمثلة في القاهرة لعبت دورًا كبيرًا في الحضارة الإسلامية.

يتعرض هذا الموروث الثقافي والتاريخي في سورية والعراق لعملية هدم وتخريب أمام أعيننا من قبل البرابرة الموجودين بيننا، إذ إن عملية التخريب هذه تُعد ثاني أكبر عملية تخريب عرفها التاريخ بعد حملة المغول ضد بلاد المسلمين في القرن الثالث عشر، والتي أدت إلى تدمير عاصمة الثقافة والحضارة بغداد، فأحرقوا الكتب التاريخية ورموا بها في النهر، حتى تلوّن النهر بلون الحبر من كثرة ما ألقي فيه من كتب.

وكأن التاريخ الآن يعيد نفسه؛ ولكن الفرق هذه المرّة أن من يقوم بعملية التخريب هم موجودون بيننا، إذ إن متحف الموصل الموجود في محافظة نينوي ومدينة نمرود التاريخية، واللذين يحظيان بتصنيف اليونيسكو، تعرّضا لعملية نهب وتخريب كبيرة.


أبعاد الدمار
تمتلك سورية مخزونًا ثقافيًا كبيرًا، تراكم منذ آلاف السنين، فقد شكّلت مدنها حاضنةً للكثير من الحضارات، كما أنه تعاقب عليها البابليون والأشوريون والإغريق والفرس والروم والإسلام، وبدخول الإسلام والعرب إليها تعاقبت عليها الكثير من الحضارات والدول الإسلامية، ومنها الأموية والعباسية والأيوبية والسلجوقية والمماليك، وأخيرًا العثمانية التي تركت بصمتها الواضحة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

وفي أيّامنا هذه، هناك ست مدن وأماكن سورية ضمن قائمة اليونيسكو للثقافة والتراث وهي مدينة دمشق وحلب وتدمر وقلعة الحصن وقلاع صلاح الدين، وتمثل هذه المدن والأماكن أرشيفًا لألفي سنة من التاريخ والحضارة، وهناك العشرات من الأماكن التاريخية التي تنتظر لكي يتم ضمّها إلى قائمة اليونيسكو، ولكن الحرب التي تم إشعال فتيلها عام 2011 حالت دون وقوع ذلك، إذ إن التراث الثقافي تأثّر كما الإنسان بهذه الحرب، وللأسف الشديد هذا التراث الذي يعد أمانة عندنا يتعرّض للهدم أمام عيوننا دون أن نحرّك ساكنًا.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر لكم الأماكن والوقائع التاريخية التي حدثت على أرض سورية، حيث إن هذا الموضوع يحتاج إلى مئات الصفحات. ولكن دعونا نبدأ بأكثر الوقائع التاريخية معرفة، منها زيارة النبي إلى سورية وهو صغير ضمن قافلة تجارية، ومدينة دمشق حاضنة تاريخية لما يزيد عن ألف عام، فهي عاصمة الأمويين وعاصمة الدولة الأيوبية والمملوكية وسمّاها العثمانيون بـ "الشام الشريف".

مدينة حلب كانت ثالث أكبر مدينة في العصر العثماني بعد إسطنبول والقاهرة، تتعرض اليوم إلى أكبر عملية تدمير في سورية، حيث إن قلعة حلب وأسوار حلب القديمة، والجامع الأموي، والسوق المغلق تعرّضت إلى دمار كبير.

شهدت قلعة الحصن القريبة من حمص دمارًا واسعًا، إذ تم تدمير مسجدها ويتمّ الآن استخدامها من قبل جنود النظام كمركز عسكري، وقلعة صلاح الدين القريبة من اللاذقية تعرّضت أيضًا لدمارٍ كبير.

في عام 1980، تم ضم مدينة تدمر السورية إلى قائمة اليونيسكو للتراث والثقافة. هذه المدينة الذي تُعد من أهم معالم سورية التاريخية، والتي كان تتردّد عليها قوافل الروم والبيزنطيين والمسلمين، وخلال الحرب الدائرة في سورية تعرّضت لدمار كبير، إذ جرت محاصرة المدينة واستخدامها كمركز عسكري من قبل قوات النظام أيضًا.


القلاع والمتاحف
تعد سورية أرض القلاع حيث يوجد بها العشرات من القلاع التي تعود للعصور الوسطى، ولكن أهم قلعتين هما قلعة الحصن التي تم بناؤها في عهد الروم وقلعة صلاح الدين التي تم بناؤها في العصر الأيوبي وتم إضافة هاتين القلعتين على قائمة اليونيسكو في عام 2006.

شهدت قلعة الحصن العائدة للعهد الصليبي والقريبة من مدينة حمص دمارًا واسعًا، إذ تعرّض مسجد القلعة للدمار وتم استخدام القلعة كمركز عسكري من قبل جنود النظام، وكذلك تعرّضت قلعة صلاح الدين القريبة من اللاذقية لحصّتها من الدمار.

يوجد في سورية اليوم أكثر من 20 متحفاً، ولكن معظم القطع الأثرية موجودة في متحف دمشق. ولم يتعرّض متحف دمشق إلى أي ضرر حتى هذه اللحظة، ولكن متاحف حمص وحماة ودير الزور والرقة تعرّضت لدمار واسع. ففي متحف الرقة هناك بعض القطع الأثرية التي تعود إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نستنكر ما يقوم به أطراف الصراع في سورية من تدمير ومحو للتراث الثقافي والتاريخي لسورية، وكذلك ما تقوم به اليونيسكو من صمت مريب حيال ما يتعرّض له تراث سورية، ونأمل أن تنتهي هذا الحرب سريعًا حفاظًا على الإنسان والتراث والتاريخ.

 

(النص الأصلي لـ جنقيز تومار)

المساهمون