في طوابق "كلية الآداب" العليا في "الجامعة الأردنية"، ثمّة قسمٌ يبدو للوهلة الأولى أنّه مقتطعٌ من دير قديم، لا يمرّ به غير رهبان مستعجلين دائماً، سيكون ذلك "قسم الفلسفة"، هو الوحيد الذي يُعنى بتدريسها منذ ستينيات القرن الماضي ضمن 29 كليّة وجامعة خاصة وحكومية في الأردن.
آخر الممر يقع مكتب أستاذ الفلسفة جورج الفار. المكتب يمتلئ على الدوام بطلبة من القسم وخارجه، إضافة إلى وجود أعضاء من الهيئة التدريسيّة، مشغولين على الدوام بنقاشاتٍ حول الفلسفة والدين والفكر والقضايا الراهنة.
"هؤلاء مغامرون"، يقول رئيس القسم ضرار بني ياسين لـ"العربي الجديد"، ويستدرك: "قلّة من تغامر وتدرس الفلسفة، وكثيرون يدخلون القسم كممرّ للعبور إلى تخصصات أخرى، كون الالتحاق به لا يتطلب معدل قبول عالياً في الثانوية العامة".
ويضيف بني ياسين "من يدخل عابراً، يبذل أساتذة القسم "جهوداً مضنية" لإقناعه في الاستمرار، لكن للأسف، يغادر بعد السنة الدراسيّة الأولى".
يتم تدريس الفلسفة للمراحل الثلاث: البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، وتطرح خطة القسم مواضيع عديدة مثل: فلسفة العلم، نظريات المعرفة، أخلاقية العلم، إلى جوار مساقات إجبارية يدرسها طلبة الأقسام الأخرى في كلية الأدب تتعلّق بالمنطق والأخلاق، يعلّق الفار: "رغم صغر القسم وضعف إمكاناته، لكن هناك محاولات لمواكبة تطوّر العلوم، تعتمد على اجتهاد الكادر الأكاديمي".
يصف الفار الطلبة الجدد بأنهم غير مهيئين لاستقبال نص أو مساق في الفلسفة، وبعضهم يعانون من ريبة، وعلى الجانب الآخر هناك من يريد شهادة، آخرون يتململون ولا يودّون تغيير قناعاتهم، لكن لا يخلو الأمر من طالبين للحقيقة، غادروا المسلّمات المتوراثة نحو الفلسفة، وهم يتخذون من مكاتب المدرّسين ملجأ لطرح الأسئلة.
تحدث المفارقة كل عام دراسي؛ إذ يزدحم برنامج الدكتوراه بالطلبة، فعلى الرغم من تحديد حاجة القسم بعشرة طلّاب إلّا أن إدارة الجامعة تقبل 70 طالباً، أردنيين وغير أردنيين، استكمل 30 منهم متطلبات النجاح هذا العام، فيما لم يقبل في برنامج البكالوريوس سوى 17 طالبا فقط.
يرى بني ياسين أن المشكلة الرئيسيّة التي يُعانيها الطلبة بعد التخرّج هي عدم وجود مكان لهم في سوق العمل، كونه لا توجد مساقات للفلسفة في مدارس الأردن.
مجموعة أكاديميين بعضهم أصابه يأسٌ من المنظومة التعليمية، والآخر ما زال متفائلاً، ويستقبل طلاباً يجدون لديه مكاناً للحوارٍ أو تلقي توجيه ما، فيما يسعى بعض الأساتذة إلى إحياء الفلسفة من خلال أسبوع علمي تقام خلاله كل سنة محاضرات وندوات لا تحضرها إلّا القلة، إضافة إلى مبادرات عدة يطرحها القسم للخروج بالطلبة ومعهم من هذا الواقع. ومع كل ذلك تبقى المشكلة التي بدأت في المدارس وحملها الطلبة معهم إلى الجامعات "حيث الفلسفة ترتبط بالزندقة، ولا مستقبل في سوق العمل لخريجيها" وفقاً لما رصده الفار.
الأكاديميّة أسيل الشوارب، رئيس "قسم العلوم التربوية"، في "جامعة البتراء"، والتي قدمت أطروحتها في الدكتوراه حول تعليم الفلسفة للأطفال، معتمدةً على طروحات الفيلسوف الأميركي ماثيو ليبمان، في خمسينيات القرن الماضي، والذي اعتبر أن الفلسفة عمل كل فرد، ولا ترتبط بعمر معين، تقول لـ "العربي الجديد": "الطفل يفكّر بطريقة تباعدية، تمكنه من طرح تساؤله بحريّة، وبصيغة مختلفة؛ لذا فتدريس الفلسفة للأطفال ضروري لإنشائهم على التفكير النقدي الحرّ والمستقل في مراحل لاحقة".
وتستدرك أن ذلك يتطلّب معلمين في المدارس قادرين على قراءة النص الفلسفي، وبدوره يؤكد بني ياسين أنَّ القسم تبنى خطة تتمثّل في استعداده لعمل ورش ومحاضرات لكل من يريد تدريس الفلسفة في المدارس. وتقترح الشوارب هنا أن يتم تدريس الفلسفة للأطفال لا عن طريق تاريخ الفلسفة ونصوصها، إنما على شكل قصص وسلوكيات ومواقف.
لكن طرفي النزاع حول تعديل المناهج في هذه الفترة؛ وزارة التربية والتعليم و"نقابة المعلمين"، يستبعدان أيّ تحرك لتضمين الفلسفة في المناهج، وأبعد من ذلك استبدلت الوزارة الكتاب الوحيد الذي احتوى دورساً في الفلسفة وهو "الثقافة العامة" بكتاب "تاريخ الأردن" ضمن العام الدراسي الحالي.
"نقابة المعلمين" تقرّ بضرورة تدريس الفلسفة، ويعتبرها الناطق باسمها أحمد الحجايا في حديثه لـ "العربي الجديد"، أحد مفاهيم التطوير وتربية الطلبة، وعند سؤاله إذا ما كانت النقابة قد طالبت من قبل بتدريس الفلسفة، أجاب بالنفي، وأنها "لم تطرح ذلك".
تربط "وزارة التربية والتعليم" في خطتها الاستراتيجية الأخيرة التعليم مع متطلبات السوق؛ ونصّت أهدافها على "تطوير معارف ومهارات وكفايات وخبرات المتعلّم، وتعزيز القيم الإيجابيّة لديه؛ لمساعدته في التعامل مع مستجدات الأوضاع، والقضايا والتحديات، بما يتناسب وسوق العمل".
من بين نحو مليوني طالب في مدارس الأردن، وأكثر من 25 ألف طالب وطالبة جامعي، لا يوجد غير 17 طالباً يدرسون الفلسفة هذا العام.