يُرهق الروتين الإداري المصريّين، حتى في ظلّ مكننة معظم الإدارات الرسمية في البلاد. على سبيل المثال، فإن تصحيح اسم أو استخراج قيد عائلي من مصلحة الأحوال المدنية أو "دار المحفوظات" في القلعة التي يتردّد عليها آلاف المواطنين من مختلف المحافظات، ليس أمراً سهلاً دائماً.
أمامَ مصلحة الأحوال المدنية، طابور طويل من المواطنين. جميعهم ينتظرون إنهاء معاملاتهم الشخصية، فيما تغيب التعليمات والإرشادات التي قد تساعدهم في ذلك. وبسبب الزحام، تكثرُ المشاكل والاشتباكات بين المواطنين على خلفية أسبقية الدور، وأحياناً بين المواطنين والموظّفين.
تتجسّد أحد أوجه معاناة المواطن المصري في مصلحة الأحوال المدنية. هناك، تحدثُ قصص غريبة، منها تحول رجل إلى امرأة (بسبب تبديل الأسماء). وفي إحدى المرات، أراد مواطن استخراج شهادة ميلاد له، فأخبره الموظف بأنه توفي. هناكَ أيضاً تبديل في الحروف، على غرار حسن بدلاً من حسين، علماً أن تصحيح الأخطاء قد يستغرق وقتاً طويلاً.
بدت على وجه حميدة عبدالعال محمد، وهي في العقد السادس من العمر، علامات الحزن، وقد تعبت من التردد على مصلحة الأحوال المدنية في العباسية، لدرجة أنها باتت تعرف جميع الموظفين. تقول: "قدَري أنني لا أملك شهادة ميلاد، أو أي بيانات شخصية. تزوّجت من دون شهادة ميلاد في أربعينيات القرن الماضي. أنجبتُ عشرة أولاد تُوفي ثلاثة منهم، من دون أن أملك يوماً شهادة ميلاد أو بطاقة رقما قوميا".
تُتابع محمد أو "أم حجاج" أنه "عام 2009، قرّر أولادي تحقيق رغبتي بأداء فريضة الحج، لتبدأ معاناتي عندما توجهت إلى مصلحة الجوازات في محافظة المنيا (صعيد مصر) لاستخراج جواز سفر، ليخبرني الموظف المعني بأن شهادة الميلاد هي من ضمن الأوراق الرسمية المطلوبة". لم يكن منها إلا أن ردت عليه: "يا ابني لا أملك شهادة ميلاد، واسمي معروف لديكم. ألستم الحكومة وتعرفون أسماء الناس؟". ردّ الموظّف ضاحكاً: "لا يا ماما، يجب أن يكون في حوزتك شهادة ميلاد لاستخرج بطاقة، ثم جواز سفر".
تُضيفُ أم حجاج أن أولادها قصدوا عدداً من المحامين في مدينة بني مزار (أحد مدن محافظة المنيا) لمعرفة الإجراءات القانونية واستخراج شهادة ميلاد. وأمامَ العذاب الذي عانته وأولادها، في ظل مماطلة وتلكؤ الجهات المعنية، "أخبرتُ أولادي بأنني فقدتُ الرغبة في أداء فريضة الحج". لكن بعض الناس أكدوا لي ضرورة استخراج بطاقة رقم قومي، حتى بات ينطبق عليّ المثل القائل: "دوّخيني يا لمونة".
لم تنته القصة بعد. ارتأت الأحوال المدنية تغيير اسم السيدة، واسم والدها ووالدتها، فوافقت. خلال هذه السنوات، دفعت مبالغ مالية كبيرة بسبب السفر والرشوة وتقديم الأوراق، ناهيك عن الانتظار لساعات وسط الحر الشديد. تقول: "نُذلّ قبل الحصول على ورقة مهمة. لم أطلب وظيفة مثلاً. أريد فقط الحصول على أبسط حقوقي وهو شهادة ميلاد". تشير إلى أن "أولادها سيواجهون المشكلة نفسها في المستقبل. فبعد تغيير اسمي وبيانات أسرتي، سيكون عليهم تعديل بياناتهم في شهادات الميلاد، بحسب الموظف في مصلحة الأحوال المدنية، و"هذه كارثة".
أم حجاج على قناعة بأن مشكلتها مجرّد نقطة في بحر من المشاكل التي يعانيها المصريون مع مختلف الإدارات الرسمية. تقول إن الحكومة "لا تهتم بحل مشاكل المواطنين". تضيف أنه "لا يوجد رحمة في قلوب الموظفين. هؤلاء لا يخرجون من مكاتبهم، فيما ينتظر الناس ساعات قبل أن يحين دورهم". وبالعودة إلى أسباب عدم استخراج شهادة ميلاد في الماضي، تقول أم حجاج إنه في خمسينيات القرن الماضي، لم يكن كثير من أولياء الأمور يهتمون باستخراج شهادة ميلاد للفتيات، وخصوصاً أن الأمر يتطلب الانتقال إلى المدينة، وكان هذا الأمر مكلفاً. في المقابل، كان آخرون يعمدون إلى استخراج شهادة ميلاد. فإذا عاش الطفل، يحمدون الله، وإذا توفي، يمنحون المولود الجديد شهادة الطفل المتوفى.
تتابع أم حجاج أنها كانت الفتاة الوحيدة وسط خمسة أولاد، و"كان من الطبيعي ألا يستخرج لي أهلي شهادة ميلاد، ما أدى إلى كل هذه المعاناة اليوم". تختم حديثها قائلة: "على الأرجح، سأموت قبل الحصول على شهادة ميلاد. وحتى هذه اللحظة، لا أعرف إذا كنتُ سأحصل على شهادة وفاة. كنت أتمنى أن أزور الكعبة وأؤدي فريضة الحج، وهي أمنية أتمنى من الله أن يحققها لي. لكن الإهمال وسط الإدارات الرسمية قد يحول دون ذلك، علماً أنها أمنية بسيطة جداً".
اقرأ أيضاً: "ضابط حرامي" في مصر