التحدّي في التحوّل نحو اقتصاد المعرفة لا يكمن في النجاح بوضع بعض تطبيقات تكنولوجيا المعلومات موضع التطبيق، بل إن التحدّي هو في القدرة على إحداث التغيير المجتمعي لجعل تكنولوجيا المعلومات جزءاً من نشاطاتنا وممارساتنا في كل القطاعات والفعاليات.
وتكنولوجيا المعلومات لا تكمن في قصص نجاح إبداعية، أظهرها بعض المبدعين الذين نجحوا في تسجيل إنجازات مهمةٍ في دنيا غير دنيا العرب، وعلى الرغم من العرب وليس بسببهم.
كنت في رحلة إلى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (إم. آي. تي) وجامعة هارفارد للمشاركة في ندوةٍ عن إنجازات الشباب العرب، والتقينا مع طلاب من الجامعة لنرى كيف يمكن أن يساهموا في دفع عملية الإنتاج المعرفي في الوطن العربي.
وقد ألقى الدكتور أبو غزالة كلمة افتتاحية في الندوة أكد فيها على أمرين: أنه لا غنى لنا عن الاقتصاد المعرفي في الوطن العربي. وأنه واثق من قدرة العرب على التآلف، ويرى أن الفجر العربي بات قريباً، وأن بداية الانطلاقة والنهضة العربية ستبدأ في العقد الثالث من هذا القرن.
وقد تحدثت بصفة فردية مع عدد كبير من الطلبة العرب من مختلف الدول العربية، وشعرت بطاقةٍ كبيرةٍ تدخل إلى جسمي وعقلي، وبدفعة أملٍ قوية، فهؤلاء الطلبة المبدعون هم مثل أبنائي وأبناء غيري، ولهم قدراتهم التي يتوقون لإبرازها واستثمارها. ولكنهم حيارى حيال ماذا يصنعون بأنفسهم في المستقبل، فهم من ناحيةٍ يريدون أن يقوموا بمحاولاتٍ ومبادراتٍ واكتشافاتٍ واختراعاتٍ يرون أن العالم العربي لا يوفر لهم البيئة لإجرائها، وأن أجروها فهو لا يوفر لهم الإمكانية لاستثمارها.
ويتحدثون عن مبدعين كثيرين سعوا إلى ذلك في الدول العربية المختلفة، وأخفقوا. ومن ناحية أخرى، هم يشعرون بالذنب لأن الوطن العربي الذي علّمهم وأعدهم لا يستطيعون خدمته، أو أن يسدّدوا جزءاً من ديونه عليهم.
ولما عدت إلى عمّان، شاركت في ندوةٍ نظمتها مؤسسة محمد بن راشد للمعرفة عن تحديات التحول نحو مجتمعات المعرفة، وحضر الندوة راعياً لها وزير التربية والتعليم الأردني، والعبرة من هذا الترتيب هو التأكيد على أن التحول المعرفي يتطلب بداية إدخاله جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية، حتى ننشئ جيلاً كاملاً قادراً على المعرفة وفهمها، والتعامل معها سلوكاً وإنتاجاً واستخداماً.
وبالعملية التربوية تكون بداية التحول. وأطفالنا جاهزون لذلك. فأنت ترى الطفل الصغير صاحب السنوات الثلاث يتلاعب بجهاز الهاتف النقال، ويتعامل مع كل الإمكانات المتاحة فيه، بينما ترى الشخص الكبير لا يعرف عن هذا الهاتف إلا أنه للمكالمات وإرسال الرسائل. وإن جلس في قاعة اجتماعات ورنّ هاتفه، فهو لا يعرف كيف يصمت الهاتف، حتى لا يزعج الآخرين.
والأمر الثاني المطلوب منا هو تشجيع الإبداع واحتضانه، وهذا يتطلب نمطاً جديداً من التعليم العالي، فبدلاً من تكريس وقت الطلاب، ذوي القدرات الخاصة في الدراسة، والحفظ، وتقديم الامتحانات، والحصول على شهادةٍ لا تعلمهم الذكاء الاجتماعي أو المهارات، تحول طاقتهم إلى الاختراع والتطوير، وبحيث لا يتخرّج الطالب منهم إلا وقد سجّل اختراعاً تتبناه إحدى المؤسسات الإنتاجية، أو عن طريق فتح حاضناتٍ لذلك، وقد حصلت مؤسسة طلال أبو غزالة من وزارة التعليم العالي في الأردن على ترخيصٍ للسير في بناء هذه الكلية.
ويلاحظ أن من أهم العوائق أمام إبداع المبدعين ليس الفشل في ربط الاختراع، أو الاشتراك في العملية الإنتاجية فحسب، بل وفي توفير التمويل اللازم لها. ولهذا، يجب إنشاء صناديق للدعم أو حاضنات توفر التمويل والوسيلة للمخترعين والمبدعين، لكي يضعوا إمكاناتهم موضع التنفيذ.
وفي أثناء مناقشاتي مع طلبة "إم. آي. تي" وجامعة هارفارد، قلت لهم: "خسارة، فأنتم تشكلون حالة واضحة من نزيف الأدمغة". فقالت لي إحدى الطالبات المتفوقات من لبنان: "ولماذا نستخدم اصطلاحاً قاسياً مثل نزيف الدماغ. لماذا لا نحول هذا النزيف إلى حالةٍ من تدوير الأدمغة أو العقول. نحن نعيش في عصرٍ نقدر على خدمتكم فيه ونحن هنا. ولكن هذا يتطلب خلق حالة تشبيك معنا. وكذلك نحن بحاجةٍ إلى أن تعطونا فرصاً لمددٍ محددة، نأتي فيها إلى إحدى الدول العربية، لنساهم في إنجاز مهمة ما، أو نقوم بالتدريس، أو بالمشاركة في تنفيذ مشروع. ونعود إلى هنا لنحافظ على فرص عملنا، وفرص توسيع معارفنا ومداركنا".
الأمر كله بيدنا لكي نبدأ تلك الانطلاقة. ونحتاج أشخاصاً من أصحاب الرؤية، قادرين على أن يحدثوا فرقاً واضحاً في تجسير الفجوة بين التطلعات والإمكانات.