تحديات الجماعة العميقة

04 مارس 2015
تخاطب الدعوة في الآخر إيمانه وعقيدته، وتمنيه بدخول الجنة(Getty)
+ الخط -

"الدولة العميقة" مصطلح حديث نسبياً، تم تداوله للحديث عن الأنظمة المستبدة المتغلغلة في مفاصل الدولة من أعلى الهرم إلى أدناه، وارتبط بها الفساد والهياكل الثقيلة، والمناورات التنظيمية، وصراعات الأجنحة الساعية إلى الحصول على السلطة والموارد، دولة عميقة بشكل يصعب معها الإصلاح، وتحتاج إلى خلخلة في العمق والمفاصل للوصول إلى حالة من المرونة التي تؤهلها لمواكبة تطورات التحولات التاريخية.

هذا العمق وما يصاحبه من بنية ثقيلة يمكن إسقاطه على الجماعات الإسلامية التنظيمية، التي تقوم على بناء نظامي مؤسسي بهياكل رأسية متعددة الأفرع والمستويات، ولوائح تنظيمية وآليات معقدة، خصوصاً عندما تكون جماعات كلية التخصص والاهتمام، منطلقة من فهمها لشمولية الإسلام وعموميته لكافة مناحي الحياة. فهي بذلك أقرب إلى بنية الدولة الكاملة، ويمكن أن توصف بأنها دولة موازية داخل الدولة الأم. وليس هذا مجال الخوض في تفاصيل الأسباب التي أدت إلى هذه الصيغة من البناء الداخلي والعمل الخارجي التي ارتبطت في ظهورها بانتهاء دولة الخلافة الإسلامية بداية القرن العشرين وظهور الدولة القُطرية، وإنما الهدف هو التعرف على عدد من التحديات التي تواجه الجماعات العميقة، ذلك العمق الذي يشكل سداً قوياً في وجه التحديات ومحاولات الاستئصال، ولكنه يحتوي أيضاً على بذرة الفناء على المدى البعيد عندما يغيب التجديد والتطوير الشامل في المبادئ والأفكار والغايات قبل السلوكيات والآليات والوسائل. فإن كان الإسلام- كما في الحديث الصحيح المشهور- يحتاج من يجدد فيه كل عقد من الزمان "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا"، تجديد مرتبط بالفهم وبنية عالم الأفكار المتناسق مع السياق الزمني الحاضر، فمن باب أولى أن الجماعات الإسلامية التنظيمية ليست في معزل عن هذه السنة الكونية.

ولعل أبرز تحديات الجماعات العميقة تكمن في محاور عديدة نسوق منها التالي:

أولاً: تحديات على مستوى الآليات والوسائل:

1. تحدي سرية التنظيم وما يشكله من هاجس أمني للجماعة والدولة على حد سواء. وكما هو معلوم، فإن العمل السري لا يمكن تفسيره تفسيراً حسناً، ويثير العديد من التساؤلات والتكهنات والريبة، وعواقبه وخيمة على الفرد داخل الجماعة، خصوصاً مع ما يرافقه من حس أمني وتوجس وخيفة من تداعيات الانكشاف أمام المؤسسات الأمنية. وهذا يخلق نوعا من الانزواء والتمحور حول الذات، والتقوقع داخل الجماعة، وربما أحدث نوعا من العزلة عن المجتمع، ونوعا من الازدواجية بين التواصل المجتمعي وانكشاف الانتظام.

ولما كانت الجماعات الإسلامية الوسطية والسلمية ليس لديها ما تخفيه، وتقوم مناهجها ومبادئها وقيمها على موضوعات مطروحة في الفضائيات والمساجد، ومنشورة في الكتب والمواقع، فما الحاجة إلى السرية؟ خصوصاً في الدول التي تشهد مناخاً منفتحاً، وتشارك فيها الجماعات الإسلامية في تشكيل الحكومات كما في الخليج والمغرب العربي.

2. تحدي الدعوة ونشر الأفكار، حيث إن الدعوة الفردية في الجماعات الإسلامية التنظيمية تعني بالضرورة تجنيد الأفراد إلى الجماعة، ومن ثم انخراطهم في الهيكل والمستويات التنظيمية المغلقة، من أجل إعادة صياغتهم وفق عمليات من التنميط تتكفل بها الآليات التربوية في مناهجها وشروط الترفيع ومقاييس الأداء وجداول المتابعة. ويمثل هؤلاء المنمطون في الحلقات التربوية العمود الفقري الصلب في الجماعة، حيث إنهم يشكلون عوامل الصمود والثبات وقت الأزمات، من رصٍ للصفوف وتوحيدٍ للجهود وتركيزها، ومقاومة التهديدات المتتالية. وهم في الوقت ذاته، وعلى المدى البعيد، يشكلون عوامل التحلل والاضمحلال، خصوصاً حينما يكون التنميط شكلاً من أشكال مقاومة الإبداع والتطوير التي تعامل على أنها شذوذات وجب إعادة صياغتها لتوائم القوالب المستهدفة في البنية الفكرية والحركية.

واللافت في هذا السياق، أن الجماعات الجهادية السلفية استطاعت تجاوز هذا النوع من التجنيد بآليات حديثة نسبياً أكثر مرونة، وأكثر قدرة على الجذب، تتمثل في الهياكل المفلطحة والمرنة، وبطرح أفكار بسيطة يتم تكرارها وتدعيمها وتوكيدها بأساليب كثيرة ومتنوعة، منها قوة الصورة، وصناعة المخيلة.

3. تحدي المناورات التنظيمية، وهي إحدى إشكاليات العمل التنظيمي التي تكاد لا تخلو منها مؤسسة أو تنظيم، يهدف فيها الأفراد أو التيارات المناورة إلى السيطرة على الموارد والسلطة، وبالتالي القدرة على التوجيه. غير أنها تهدد كيان المؤسسة حينما تنخر الهياكل التنظيمية، وتتحول إلى ظاهرة تقودها تيارات متطاحنة؛ مما يؤدي إلى تحويل الموارد والطاقات إلى الانكفاء داخلياً. وتكمن خطورتها في الجماعات الإسلامية التنظيمية أن مبررات المناورين شرعية، يستغلون فيها الآيات والأحاديث، فتصير المفاصلة بين المتنافسين صفرية، يصعب معها تقريب وجهات النظر، بالذات على مستوى الهيئات العامة. فتبرز إلى السطح الاتهامات والتخوين والطعن في النيات، مما يمزق الصف ويصدّعه.

هذا بخلاف أن العمل التنظيمي بطبعه مستنزف للأفراد في قدراتهم الحركية وأفقهم الفكري والثقافي، فتتحول زوايا الرؤية لديهم إلى نظرة تنظيمية مغلقة للمجتمع والدولة، مما قد يؤدي إلى غياب الإدراك الحقيقي للواقع وفهم تجاذباته، حين تُقلد المسؤولية العامة وقيادة المجتمع إلى شخوص القيادات التنظيمية.

ثانياً: تحديات على مستوى المبادئ والأفكار:

1. إشكالية الخلط بين العمل السياسي والعمل الدعوي، وعدم تمايزهما عن بعضهما البعض. وهذا الخلط يحدث في الغالب، بسبب مبادئ وقيم عامة تركز على شمولية الإسلام وعموميته، وهي مبادئ وقيم لا غبار عليها، وإنما يكمن الخلل في تفاصيل عرضها والتعاطي معها على أرض الواقع، فيلاحظ في السياقات التاريخية ضبابية في التخصص، وعدم التمايز الواضح بين الوظائف الكلية داخل المجتمع، بسبب غياب القراءة التاريخية العميقة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصيته المتكاملة نفذ العديد من الأدوار داخل المجتمع، فقد كان رسولاً، وداعياً، ومعلماً، ورئيس دولة، وباني مجتمع. أدى أدواراً اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، بشكل مبهر ومبدع، دفع المؤرخ الأميركي مايكل هارت إلى القول إنه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم كأعظم شخصية على مستوى التاريخ البشري؛ لأنه الإنسان الوحيد الذي حقق نجاحاً مطلقاً على المستوى الدنيوي والديني، فقد دعا إلى الإسلام، وكان قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وما زال تأثيره باقياً متجدداً إلى اليوم. في حين لم ينتبه كثير من المفكرين المسلمين بما يكفي إلى استلهام طبيعة تعدد الأدوار التي أداها الرسول، كما يقول عبدالحميد أبوسليمان في كتابه "إشكالية الاستبداد والفساد في التاريخ الإسلامي". كما ساهم في خلط الأوراق الصراعات الصفرية والثنائيات الوهمية بين ما اعتبر تناقضاً حاداً قطعياً بين الإسلام من جهة والعلمانية والديمقراطية والليبرالية من جهة أخرى، وأدى إلى حدوث رد فعل لكل ما اعتبر نظرة علمانية تسعى إلى فصل الدين عن الدولة، فنتج عنه تضخيم لدور السياسة، إلى الحد الذي اعتبر فيه الإسلام ديناً ودولة! وهذا ما انتقده المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" وجعله يصحح مفهوم الإسلام إلى أنه دين ودنيا، بمعنى أن السياسة جزء من الدنيا وليس الدنيا بحد ذاتها.

وأدى هذا الأمر إلى تداخل بين العمل الدعوي والسياسي، رغم الاختلاف الكبير بينهما على مستوى الاستراتيجيات والوسائل والأدوات وفلسفة الصراع. فحاولت الجماعات التعامل مع هذه المجالات وفق استراتيجية الأذرع المباشرة، فاستحدثت واجهات سياسية ولدت ميتة لا روح فيها، فاقدة لأبسط أبجديات التحرك والمرونة، بسبب غياب الاستقلالية في القرار. وبانت أزمة الخلط بشكلها السافر عند الاستحقاقات الانتخابية، حينما تم تسخير العمل الدعوي العام الذي يفترض فيه تقديم خطاب تصالحي مع المجتمع بكافة فئاته، وتحول إلى مجهودات تسويقية تنافسية مع الآخر، وتعاملت معه على أنه خصم ليس للحزب وحسب، بل للدعوة نفسها، سواء بشكل مقصود أو غير مقصود.

بالإضافة إلى تحويل المساجد من مؤسسات عامة آمنة وتصالحية لكل أطياف المجتمع إلى مقرات حزبية تنافسية تساهم في تفتيته، خصوصاً عندما يكون المتنافسون جماعات وتيارات إسلامية متباينة في الرؤى والأهداف.

ولا يغيب ذكر أن الدعوة تخاطب في الآخر إيمانه وعقيدته، وتمنيه بدخول جنة الآخرة، في حين أن العمل السياسي وهو فن الممكن يخاطب في الآخر حاجاته ورغباته ومصالحه، ويمنيه بجنة الدنيا التي يسعى إلى إقامتها على أرض الواقع. لهذا، فإن الرمز السياسي سريع الظهور، سريع الأفول، يخضع للجرح والتعديل من قبل جمهوره الانتخابي حينما يفشل في تقديم تغيرات ملموسة على أرض الواقع.

2. بوصلة الولاء في البعدين القُطري والإقليمي، حيث يتجاذب الجماعات الإسلامية التنظيمية بعدان ليس بينهما تعارض على مستوى المبادئ، وهما: البعد القُطري كواقع لشكل الدولة الحديثة، والبعد الإقليمي والعالمي، تداعبه خيالات دولة الخلافة الإسلامية وسياقها التاريخي الذي تداعى مع بداية القرن العشرين، مشكلاً زلزالاً في الوجدان المسلم. أما على مستوى الواقع، فتبرز تحديات المقاربة والمواءمة بين هذين البعدين، حيث يُتهم الإسلاميون بتعدد الولاءات بين الداخل والخارج، وتبرز تساؤلات البيعة، والسمع والطاعة، والأمير أو المراقب، والمرشد، وتمثل الهموم القطرية التحدي الحقيقي في هذا النوع من المواءمة، وتحديد بوصلة الأولوية.

كما تطفو على السطح عدد من الأفكار المرهقة المرتبطة بإرث الفقه السياسي المتكيف مع انحراف سياسي، أجاد في وصفه مالك بن نبي حينما قال إن الحضارة الإسلامية منحرفة في شقها السياسي. ووصف محمد إقبال مبادئ الفقه السياسي بأنها في طور الأجنة لمّا تنضج بعد. وبهذا، فإن الخلافة الإسلامية التي تبرز في أدبيات الحركات الإسلامية كغاية عليا تسعى إلى تحقيقها، تمثل وجهاً من أوجه هذا المأزق في الإرث الفقهي، الذي يتعارض مع الدولة القُطرية التي تقوم في الأساس على الملكية العقارية، وتنظمها القوانين والشرائع الدولية، ولها العديد من البدائل غير المطروحة في تلك الأدبيات، مثل الفيدرالية والكنفدرالية.

تمثل هذه التحديات تساؤلات المرحلة الحالية للجماعات الإسلامية التنظيمية العميقة التي تفاوتت فيما بينها في تفاعلاتها مع واقعها، وتمكنت من تجاوز عدد منها، كما في التجربتين التركية والمغربية، بينما دخل بعضها في نفق مظلم، وصارت أزماتها الداخلية حديث الساعة، كما في التجربة الأردنية، وما بينهما تتفاوت التجارب بحسب الفعل ورد الفعل. على أن هذه الجماعات تتحمل مسؤوليات كبيرة تجاه مجتمعاتها. وهذا يعني أن العبء كبير، فهل يمكنها تجاوز هذه التحديات؟ أم أنها ستضمحل في النهاية ويخبو وهجها؟


(البحرين)

المساهمون