تحت السيطرة: المعايشة التي تخلق فناً حقيقياً

27 يوليو 2015
مشهد من "تحت السيطرة" (فيسبوك)
+ الخط -
هناك مشكلة كبرى ومُزمنة في الأعمال المصرية، سواء في السينما أو التلفزيون، وهو أن أبطالها وحكاياتها لم تأتِ من تجربة أو معايشة لصانع العمل.. ولكن تأتي كمحاكاة لأعمال أخرى أسبق تناولت نماذج وحكايات شبيهة، والأعمال الأخرى بدورها تنسخ أو تقلد أعمالاً أقدم منها، وهكذا في خيط طويل يُنتج في النهاية ما يُسمى بـ(الكليشيه).. الشيء المُتوقّع والذي يشعر المشاهد دوماً أنه رآه من قبل.

موضوع "الإدمان" وحالات المدمنين يمكن اعتباره ضمن أكبر "الكليشيهات" في الدراما المصرية، نماذج متشابهة جداً، لشخصيات ثانوية في الأعمال على الأغلب، والهدف منها وعظي بشكل مباشر، ومنذ الثمانينيات لم نخرج عن هذا النمط، وباستثناء فيلم "المدمن"، بطولة أحمد زكي وإخراج يوسف فرنسيس عام 1983، لم يتم تناول حالات الإدمان بأي قدر من القرب والخصوصية. حتى عُرض "تحت السيطرة" في رمضان 2015، لتكون تلك "الخصوصية" و"الحقيقية" هما الإنجاز الأكبر لكاتبته مريم نعوم ومخرجه تامر محسن.

الكتابة الواقعية
"تحت السيطرة" يتحرك بالمعايشة قبل أي شيء، مريم نعوم وتامر محسن قضيا أوقاتاً كثيرة أثناء التحضير والكتابة بالقرب من أشخاص مدمنين، سواء متعافين أو يحاولون التعافي، من أجل البحث عن "حيوات" حقيقية يتم نقلها على الشاشة. كذلك اختيار "د.نبيل القط"، الطبيب النفسي الذي لديه خبرة كبيرة في مساعدة المدمنين، ووجوده استشارياً للمسلسل، سواء في مرحلة الكتابة أو التنفيذ، للوقوف على التفاصيل الأصغر لشخصياته، التي تتجاوز هنا فكرة (النموذج) ليصبحوا (من لحم ودم)، وذلك تحديداً هو جوهر "تحت السيطرة".

المسلسل حاول التخلّي عن أي قيمة وعظيّة مجردة يفرضها موضوعه، واعتمد بالأساس على نَسج الشخصيات والتفاصيل، بإيقاع متمهل وهادئ، لأنه "يعايش" حياتهم، مع بعض اللحظات الكبرى التي تنفجر كل حين وآخر، كما يحدث في الحياة الحقيقية أيضاً. من المبهر مثلاً الطريقة التي نُسِجَت بها شخصيات "مريم وحاتم" والعلاقة بينهما، تحديداً في النصف الأول من المسلسل –وهو النصف الأقوى لأسباب سنتحدث عنها لاحقاً-، مريم.. الفتاة التي تركت ماضيها كله في القاهرة وسافرت إلى دبي وحين عادت بعد سنوات فوجئت بكل شيء ينتظرها من دون أن يتزحزح، تهاجمها الذكريات في الأيام الأولى، حبيبها المتوفى.. ذكرى إدمانها.. كابوسها المسمى "طارق"، كأنها لم تبارح هنا. حاتم في المقابل هو "ابن الناس الكويسين"..

الشخص الجيد الذي عاش حياة كريمة ولم يعرف الكثير عن الحياة، وهو يحب مريم.. يحبها كثيراً.. ولكن ما يحدث في ظرف أيام قليلة من حياته –في حلقات المسلسل الأولى- واكتشافاته المتتالية أن المرأة التي يحبها وتزوجها تخبئ عنه السر تلو الآخر.. جعله غير قادر على التحمل.

اقرأ أيضاً: نيللي كريم... بورتريه لمدمنة في 4 مشاهد عظيمة

في تلك الفترة يكون (المنطق) و(المنظور) الذي تتحرك من خلاله كل شخصية واضحاً جداً، بكل تناقضات وارتباكات وأخطاء ومحاولات البشر، نفس الأمر الذي ينطبق على شخصيات "طارق" أو "سلمى" أو "شريف" أو "هشام" – الذي يخبر زوجته بضرورة تقليل علاقتها بمريم ــ أو "مايا"ــ التي تقبل لأن الأشخاص يتنازلون في الحياة من أجل أن تسير المركب. كل شيء عن الأشخاص وتفاعلاتها منسوج بحقيقية، كأن مريم نعوم "عاشت" وسط هؤلاء فعلاً، وهو أمر لم نكن لنشعره بهذا القدر لولا الإيقاع الذي يخلقه تامر محسن في السرد.. وقدرته المدهشة على إخراج إمكانيات مختلفة من كل أبطاله وجعلهم يغوصون تحت جلود شخصيات المسلسل، في أفضل كتابة وإخراج وأداء جماعي وفردي بين كل مسلسلات رمضان على الإطلاق.

"كليشيه" معروف
في المقابل، هناك مشكلتان مع المسلسل، الأولى أن علاقة "هانيا وعلي"، رغم نجاحها جداً مع المشاهدين ورغم المجهود المبذول من مريم وتامر وجميلة وفرّاج لمنحها الصدق، إلا أنها علاقة يمكن اعتبارها "كليشيه" عالمي بدأ منذ فيلم Requiem for a Dream للمخرج دارين أرنوفسكي عام 2000 والذي تناول في أحد خطوطه الأساسية العلاقة بين فتى وفتاة مدمنين يحبان بعضهما بشدة، وهو النموذج الذي نُسِخ عنه علاقة "آسر ياسين وأروى جودة" في فيلم "زي النهاردة" للمخرج عمرو سلامة، وهو نفس نموذج "هانيا وعلي" هنا في "تحت السيطرة".

المط والتطويل
المشكلة الثانية هي أن التزام صناع الدراما في مصر بـ30 حلقة رمضانية يورط الصناع أحياناً في المط والتطويل، النصف الثاني من "تحت السيطرة" أقل كثيراً من نصفه الأول، في بعض الأحيان كنت أشعر أنه لا يوجد ما يُمكن حكيه، فأصبحت الأحداث أقل منطقية، والشخصيات تقف في مكانها من دون تطور، دائرة (تبطيل الإدمان ثم العودة إليه) يتم تكرارها باستمرار مع 3 شخصيات "هانيا وعلي وطارق" لتصبح مزعجة في بعض الأحيان من فرط توقعها، مع جنوح شديد نحو دراما زاعقة –على عكس هدوء وتمهّل الحلقات الأولى- بشكل وعظي مباشر أحياناً: أخ يتسبب في موت أخيه، مدمن يصاب بالإيدز، وتنتحر زوجته، علي يُجَن، وهانيا تصاب بالشلل. تجميع تلك المصائر المأساوية وكرّها في إيقاع غير مُنضبط في النصف الثاني من المسلسل قلل منه، حتى مع حرفية مريم نعوم وتامر محسن التي جعلت الأمور تخرج بأقل الأضرار وأبقت على اهتمامنا وشغفنا بمصائر الأبطال حتى النهاية.

اقرأ أيضاً: عمرو يوسف ودرة: نيللي كريم رفعت سقف التمثيل مصرياً

يذكر أن مسلسل "تحت السيطرة" نجح بشكل كبير في السباق الرمضاني، خصوصاً بعد أداء ممتاز لنيللي كريم، إلى جانب ظافر عابدين، وجميلة عوض وهاني عادل، وغيرهم من الممثلين الذين صنعوا نجاح هذا العمل بشكل كبير، وجعلوه أقرب إلى المشاهد.


المساهمون