تجميل بيع ممتلكات الدولة

29 مارس 2016

يجري حالياً ترويج خصخصة شركة أرامكو السعودية

+ الخط -
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الاشتراكية، أصبح العالم أسير النظرة النيوليبرالية. وبات منظرو هذه المدرسة يتحدثون بعجرفة، فارضين شروطهم على الجميع، رافعين راية المنتصر. لكن نشوة الدول الرأسمالية في تسيّد كوكب الأرض تعرّض لاهتزازاتٍ عنيفة، بعد السقوط المدوّي لنموذج السوق الحرّ، في البلدان المنبثقة عنه، ناهيك عن صعود التنين الصيني، وخلفه بعض اقتصادات النمور الآسيوية التي نمت، على الرغم من مخالفتها وصفة النموذج النيوليبرالي.
منطلق حديث هذه السطور عن النيولبرالية، وخصخصة القطاع العام، هو الأزمة التي نعيشها في الوطن العربي عموماً، وفي الخليج العربي خصوصاً، بعد انهيار أسعار النفط، وتراجع مقدرة الدول الريعية على صرف مزيد من الأموال على مشاريع البنية التحتية، وغيرها من مؤسسات الخدمات الاجتماعية، كذلك رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية. أي، بالمختصر المفيد، جميع الامتيازات التي تُمارس فيها الدولة الريعية دور الأب الحاني. يُقال هذا الكلام هنا، فيما المعلوم أن المواطن الخليجي، في أحيان كثيرة، ما زال يعيش في ظروف اقتصادية مريحة نسبياً، كما إن دوله ليست مهددة بالإفلاس، كما يُشيع محللون غربيون أدمنوا التهويل علينا، من أجل إرغامنا على تبني سياساتهم الاقتصادية التي تسمح لرأس المال الغربي بالانقضاض على أصول الدول النامية، عبر تجميل استراتيجية بيع ممتلكات الدولة. مثال على ذلك، ما يجري حالياً على قدم وساق من ترويج خصخصة شركة أرامكو السعودية، أكبر وأهم شركة نفط في العالم.
على الرغم من الفشل المدوّي لهذا النموذج الاقتصادي في عقر داره، بعد سلسلة أزماتٍ أصابت هذه الدول، ما زال أنصاره يتسيدون التنظير الاقتصادي، بسبب غياب البديل، وتملّك هؤلاء وسائل الإعلام والتعليم المؤثرة في أهم مراكز القرار في العالم. تعتمد البروباغندا النيوليبرالية على أن التنمية الاقتصادية تحتاج اقتصاد السوق المفتوح، وعلى تخلص الدولة من أعباء المؤسسات والشركات غير المربحة؛ لأن مجرد بقاء هذه المؤسسات تحت إشراف الدولة، وإدارتها، يعني، فيما يعني، أن الإنتاجية والتنافسية تتقلص إلى أبعد حد، وذلك لأن الفرد لا يهتم غالباً، إلا بالأعمال التي تعود عليه بالنفع المباشر، والناس لا تعطي كبير اهتمام بالصالح العام كما تعطي لشؤونها الخاصة.

إذاً، تسعى هذه النظرية إلى قيادة اقتصادات الدول النامية نحو اتجاه إجباري وأحادي المسار، يتمثل في فتح الأسواق المحلية أمام رأس المال الأجنبي، برفع القيود التنظيمية، وتخفيض الضرائب؛ لأن من شأن هذه السياسة، إن حصلت، ضخ أموال أجنبية كثيرة في شرايين الاقتصاد الوطني، بما يساهم في إنعاشه، ومضاعفة حجمه، ورفع كفاءته، بحسب دعاوى النيوليبراليين طبعاً. لكن هذا التحليل يُغفل، ضمن ما يغفل، حقائق تاريخية وموضوعية كثيرة، لدول اهتدت طريقاً آخر، سمّه "الاقتصاد المختلط"، أو سمه ما شئت، لكنه مختلف تمام الاختلاف عن الوصفة النيوليبرالية، ونجح نجاحاً باهراً، في كوريا الجنوبية، والهند، وتشيلي قبل الهجمة الإمبريالية الأميركية على اقتصادها.
يدّعي جهابذة النيوليبرالية أن سبب ازدهار هذه النماذج، ونموها الاستثنائي، هو سياسة السوق المفتوح، على الرغم من أن كوريا من أكثر الدول التي ساهمت الحكومة مساهمة فعالة في إيصالها إلى هذا المستوى، عن طريق سياسة الاقتصاد الموجه، وتدخل الحكومة المباشر في دعم الأبحاث العلمية والتقنية، وتطبيق سياسة "الحمائية" تجاه المنتج الوطني، وذلك برفع الضريبة على منافسيه الأجانب، لضمان حصته من السوق المحلي. هكذا تمت حماية المنتج المحلي في مراحل التصنيع الأولى، أو ما تعرف بـ "الصناعات الوليدة". بالمناسبة، حتى الدول التي تدعو إلى تطبيق اقتصاد السوق المفتوح، لم تمارسه كاملاً، إلا بعد أن خرجت منتجاتها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، بالاعتماد على الذات، في منافسة السلع العالمية، ومنها الاقتصاد الأميركي والبريطاني اللذان عملا على تعميم النموذج. بل أكثر من ذلك، إن فلسفة دعم "الصناعات الوليدة" ولدت من رحم الثقافة الأميركية.
قدّم ها-جوون تشانج، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كامبردج، في كتاب "السامريون الأشرار"، تشريحاً عميقاً للنظرية النيوليبرالية، حيث تناول، بشكلٍ مُفصّل، نشأة النظرية، مفنداً السردية الحديثة لها، ومقدماً قراءةً موضوعيةً لتطورها التاريخي. من ضمن الموضوعات التي تطرّق لها الكاتب، حكاية الخصخصة، وكيف أن أعظم الإنجازات البشرية تمت تحت إشراف الدولة الوطنية ورعايتها. فالإنترنت تم ابتكاره في وزارة الدفاع الأميركية، وكذلك شركة طيران سنغافورة التي واصلت نجاحها 38 عاماً. أيّ تماماً عكس ما يدعي "الفلتمانيون الجدد"، وأنصار "مدرسة شيكاغو" التي أعطيت فرصةً، لكي تتجاوز من كونها معهداً لتدريس الاقتصاد إلى أهم مدرسة اقتصادية، بحسب نعومي كلاين، صاحبة كتاب "عقيدة الصدمة".
وجدت مدرسة شيكاغو ضالتها في تشيلي، حيث سعت إلى تطبيق عقيدة "فلتيمان"، عن طريق التأثير المباشر على العقول الاقتصادية التي كانت تحصل على منح دراسية مجانية في جامعة شيكاغو، بتمويل من مؤسسة فورد، حتى لُقب العائدون منها "صبيان شيكاغو"، وحين أتيحت لهؤلاء الفرصة لإدارة الدولة، بعد انقلاب الجنرال بينوشيه، نفذوا تعاليم المدرسة الأم بحذافيرها، حيث أوعز الجنرال "للصبية" تطبيق تعاليم "إنجيل" فليتمان. النتيجة التي انتهت عليها هذه التجربة، أي بعد أن استحكمت العقيدة النيوليبرالية، كانت دخول البلاد في أزمةٍ لم يعرف لها التشيليون مثيلاً، كادت تؤدي إلى إفلاس البلاد، لولا محافظة بينوشيه على ملكية "كوديلكو" شركة تعدين النحاس، المورد الذي كان يشكل 85% من عائدات التصدير.
من التوصيات التي ينادي بها أنصار التدخل الحكومي، فيما يتعلق بالخصخصة، هو معرفة المشاريع المناسب بيعها وتحديد سعرها. بيع المشاريع ذات الصفة الاحتكارية الناجحة، والتي تدر ذهباً على الخزينة، يعني سحب المال من جيب الدولة، ووضعه في جيب أصحاب رؤوس الأموال، وهذا من شأنه، إنْ حصل، تهديد أهم مورد مالي للحكومة. لذا، يبدو التساؤل عن الفائدة المرجوة من خصخصة أكبر شركة أرامكو بديهياً جداً.







59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"