تجار الدين وحديقة الحشاشين

30 يوليو 2015
+ الخط -
يقول أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن رشد: التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، وإذا أردت أن تتحكم في جاهل، عليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني". 
والتجارة هنا، على أنواع وأشكال، وأكثرها خطراً أن تكون جزءاً منها وأنت لا تدري، بل تعتقد أنك تتقرب إلى الله، وأنت تقدم خدماتك الجليلة للتجار فتزيد أرباحهم، وتُنعش تجارتهم، وأنت تحسب أنك ذاهب إلى الجنة، فيما أنت توسع من نفوذ إبليس، وتحول جناتهم إلى جهنم.
الأمر هنا شبيه بقصة "الحشاشين" في تاريخنا، وقد وصف ما يجري معهم فيما يسمى "قلعة الموت" الرحالة الإيطالي، ماركو بولو، في قصته "أسطورة الفردوس"، وهي معقل الحشاشين، إذ يقول: ".. كانت فيها حديقة كبيرة ملأى بأشجار الفاكهة، وفيها قصور وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وبنات جميلات يغنين ويرقصن ويعزفن الموسيقى، حتى يوهم شيخ الجبل أتباعه، أن تلك الحديقة هي الجنة. وقد كان ممنوعاً على أيّ فرد أن يدخلها، وكان دخولها مقصوراً، فقط، على من تقرّر أنهم سينضمون إلى جماعة الحشاشين. كان شيخ الجبل يُدخِلهم القلعة في مجموعات، ثم يُشرِبهم مخدّر الحشيش، ثم يتركهم نياماً، ثم بعد ذلك كان يأمر بأن يُحملوا ويوضعوا في الحديقة، وعندما يستيقظون، فإنهم سوف يعتقدون أنهم قد ذهبوا إلى الجنة، وبعدما يُشبعون شهواتهم من المباهج، كان يتم تخديرهم مرة أخرى، ثم يخرجون من الحدائق، ويتم إرسالهم عند شيخ الجبل، فيركعون أمامه، ثم يسألهم من أين أتوا؟ فيردون: "من الجنة"، بعدها يرسلهم الشيخ، ليغتالوا الأشخاص المطلوبين؛ ويعدهم أنهم إذا نجحوا في مهماتهم فإنه سوف يُعيدهم إلى الجنة مرة أخرى، وإذا قُتلوا في أثناء تأدية مهماتهم، فسوف تأتي إليهم ملائكة تأخذهم إلى الجنة!.
ربما يكون هذا الوصف من بنات خيال الرحالة المعروف، فثمة من يقول، إن قلعة الموت دمرت وأحرقت، وعمر ماركو بولو لا يزيد عن سنتين. ولكن، ليس هذا مهماً، فسواء كان هذا الوصف حقيقياً، أو مستوحى من قصص التحشيش، فهو مقاربة مرعبة لحال من يعتقدون أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويتقربون إلى الله عز وجل، بإهدار دم البشر، مسلمين كانوا أو غير مسلمين.

ليس "التحشيش" بالضرورة أن يكون ناتجاً عن تناول الحشيش، فعلاً، فمن الممكن للمرء أن يدخل في غيبوبة "فكرية"، نتيجة غسل دماغه، فيرتكب تحت تأثير هذا الغسيل أفدح الجرائم وأبشع عمليات القتل، وهو في قمة نشوته وانبساطه.
قلعة الموت، أو أسطورة الفردوس، ليست موجودة، فقط، في كتاب ماركوبولو، بل هي في غير مكان، كما شأن "شيخ الجبل"، فلكل زمان "شيخ جبله"، بل ربما لم ينقطع إنتاج هذا "الفردوس" في أي زمن مضى، بل كان ثمة قلعة موت، وفردوس ما، يعيش فيه أناس مهووسون بفكر ما، و"شيخ جبل" يملك عليهم ألبابهم، ويسيطر على كل تفكيرهم، حتى يمكنهم أن يعدموا فتى بآر بي جي، من دون أن يرف لهم جفن، أو يمكنهم أن يحرقوا شاباً وهو حي، وهم يعتقدون أنهم يتقربون إلى الله بالتنكيل به، كما يمكنهم أن يقطعوا رأس بني آدم، كما يقطعون رأس خروف، ويمكنهم، أيضاً، أن يهدروا دم بلد أو مدينة بأكملها، فقط لأن أهلها لم يبايعوا "أميرهم".
كم أشعر بالأسى، وأنا أرى شاباً يافعاً يرتكب أبشع الجرائم، وهو يعتقد أنه يتقرب إلى الله بإراقة دم البشر، وقتل الناس بمنتهى البشاعة. هذا في الواقع أسوأ بكثير من التحشيش، لأن المحشش لا يؤذي إلا نفسه، أما هؤلاء، فهم لعنة حلت على رؤوس أبناء هذه الأمة، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهم يخربون كل قيمة جميلة، ليس في حياتنا في هذا الشرق، بل في الوجدان البشري كله.
من أخطر تجليات ظاهرة "التحشيش المعاصر" كيفية التعامل مع "الأقليات" الدينية التي خرجت من تحت عباءة الإسلام، (وفق ما يرى "أهل السنة والجماعة") استثماراً لفتاوى "إسلامية"، تحول هذه "الأقليات" إلى قنابل موقوتة، تنفجر في وجوه مجتمعاتنا العربية، والإسلامية، وتحول أرضنا إلى فسيفساء نازفة بالدم.
ملف "الأقليات" والطوائف الدينية من أكثر الملفات خطورة في الفقه الإسلامي، خصوصاً وأن من يثيره، بحسن نية أو سوئها، "شيخ جبل" أو "تاجر محترف" من تجار الدين، يعتمد على سلسلة فتاوى صدّرها علماء معتبرون على مدار التاريخ الإسلامي، كلها تصب في اتجاه تكفير كل تلك الطوائف والأقليات التي خرجت من عباءة الإسلام. وبالتالي، استباحة دمها واستحلال أموالها ونسائها، وربما استرقاقهم، وهذا فقه ليس خاصاً بداعش، كما قد يظن بعضهم، بل هو فقه "إسلامي" صميم، حيث تمتلئ كتب أهل السنة بفتاوى تكفير معظم فرق الشيعة والدروز والبهائية والنصيرية، والأيزيدية وبقية الفرق غير المسلمة، من غير اليهود والنصارى.
قضيت وقتاً لا بأس به في البحث عن آراء لفقهاء معاصرين، أو باحثين في الفقه الإسلامي، بخصوص حكم الإسلام الآن تجاه تلك الأقليات في بلاد المسلمين، فلم أقع على رأي واحد يعاملهم مواطنين، لهم حقوق المواطنة الكاملة، على الرغم من أن معظم دساتير البلاد العربية تتسامح مع هذه الأقليات، وتتضمن ما ينص على حرية المعتقد، وحرية تغييره حتى، من دون النص على أي عقوبة بهذا الشأن، بل تركت معالجة هذا الأمر للمحاكم الشرعية.
ما فعلته جماعات "الجهاد" الجديدة، المستندة إلى فقه يعود إلى حقب ماضية، من قتل وإهدار دم تلك الفرق والطوائف التي ترى فيها مجرد جماعات "مرتدة" عن الإسلام، يفجر قضية في غاية الخطورة أمام رجالات الدعوة الإسلامية المعاصرة، وكيفية استخلاص رؤية للتعامل مع هذه الأقليات، وفق ما تمليه قواعد الإسلام العامة التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بحرية المعتقد، فالله عز وجل يقول: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.. سورة الكهف الآية 29. ويقول جلت قدرته، في سورة البقرة الآية 256: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وفي سورة يونس الآية 99: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ..؟
إهدار دم تلك الفرق التي اعتبرها الفقهاء القدامى "مرتدة" عن الإسلام، في سياق تاريخي معين، واستدعاء هذا الحكم الآن، وتطبيقه على هذه الطوائف في عصرنا، لا يتسق مع عدل الإسلام وروحه المتسامحة، حيث لا يمكن أن تطلب من سكان جبل الدروز، مثلاً، أن "يسلموا" أو تهدر دمهم، وتسبي نساءهم، فهؤلاء مواطنون معاهِدون، عاشوا بيننا، وبيننا وبينهم علاقات، وعِشْرة عمر، وحسن جوار، نحن بحاجة لفقه معاصر ومرن، لا يعتمد فقط على استدعاء الفتاوى التاريخية، بل يستلهم المستجدات المعاصرة، ويأخذ في الاعتبار المعطيات التي آلت إليها أوضاعهم مواطنين مسالمين، غير محاربين، منعاً لأي "تجارة" خبيثة بالدين، تذهب بما بقي من عناصر الاستقرار، والأمن والأمان في مجتمعاتنا العربية.

دلالات