تبدّلات على الساحة الليبية: تراجع حفتر الميداني وانعكاساته السياسية

16 سبتمبر 2019
تتقدم "الوفاق" على أكثر من محور (محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -

يتبدل المشهد الميداني في محيط العاصمة الليبية طرابلس، بوتيرةٍ متسارعة، لغير صالح اللواء المتقاعد خليفة حفتر. منذ ما يقرب الشهر، وتحديداً منذ منتصف شهر أغسطس/آب الماضي، أعادت قوات حكومة الوفاق، ولو بطيئاً، قلب قواعد اللعبة، منذ إعلانها عن تقدمها في محور الخميس، ما انعكس كذلك على مجريات الحراك السياسي، والدولي خصوصاً. اليوم، ومع تقهقرها باتجاه ترهونة، التي باتت قاعدتها الوحيدة القريبة من طرابلس، بعد سقوط غريان، تلقت مليشيات حفتر ضربة قوية مع مقتل ثلاثة من أبرز قادتها في هذه المدينة، ما يعجل السؤال حول مدى قرب سقوطها، والدور المتقدم الذي بات يلعبه سلاح جو "الوفاق" في العملية العسكرية، في مقابل الدعم الجوي الذي يتلقاه الطرف الآخر من دول إقليمية؟

ضربات قاسية لحفتر

بعد أيام من تمكّن قوات حكومة الوفاق من حصار مدينة ترهونة (تبعد عن طرابلس 88 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي)، بتقدمها في أكثر من محور باتجاهها، تلقت مليشيات حفتر ضربةً جديدة، بمقتل ثلاثة من أبرز قادتها المتواجدين في محيط طرابلس.

وأكد المتحدث الرسمي باسم مكتب الإعلام الحربي لقوات "الوفاق"، عبد المالك المدني، الأنباء التي خرجت الجمعة، حول مقتل ثلاثة من أبرز قادة مليشيات حفتر في غارة جوية نفذها سلاح جو "الوفاق" واستهدفت سيارة للتحكم والسيطرة تابعة لهذه المليشيات في مدينة ترهونة. والقتلى هم العقيد عبد الوهاب المقري، آمر "اللواء التاسع"، والنقيب محسن الكاني، آمر القوة المساندة، وشقيقه عبد العظيم الكاني.



ويعد المقري، أحد أبرز قادة مليشيات حفتر بترهونة، وعرف كأحد ضباط النظام السابق بالمنطقة، كما تولى إمرة "اللواء التاسع" (الذي كان يعرف بـ"اللواء الثامن") بتكليف من حفتر أوائل إبريل/نيسان الماضي. كما يعد محسن الكاني (34 عاماً) من أبرز قادة مليشيا الكانيات، المنسوبة لقبيلته، ويتولى مع إخوته الخمسة قيادتها منذ تشكلها عام 2014. وتنسب للمليشيا أعمال قتل وجرائم وثقها بيان لوزارة داخلية حكومة الوفاق، صدر في أوائل مايو/أيار الماضي، وأكد أن محسن الكاني هو من ضمن الأشخاص المطلوبين للعدالة. أما عبد العظيم الكاني (23 عاماً) فعرف كأحد القادة الميدانيين للمليشيا التي تعتبر من أقوى المجموعات المسلحة في المدينة، والتي خاضت حربين ضد قوات "الوفاق" في أكتوبر/تشرين الأول ويناير/كانون الثاني الماضيين.

وحاول حفتر الاستفادة من علاقة مليشيا الكانيات المتوترة بقوة "حماية طرابلس" التابعة لـ"الوفاق"، والسيطرة عليها من جهة أخرى. فبدلاً من "اللواء الثامن" الذي كانت تعرف به، أصبح اسمها الرسمي "القوة المساندة" بإمرة محسن الكاني، الذي منح رتبة نقيب، لكنها تنضوي في الواقع تحت إمرة "اللواء السابع" المؤلف من عدد كبير من كتائب معمر القذافي السابقة التي كان يقودها اللواء الصيد الجدي، وتم تولية العقيد عبد الوهاب المقري خلفاً للجدي بقرار من حفتر أوائل إبريل/نيسان الماضي.

واعتبر حفتر ترهونة قاعدته الثانية في حربه على طرابلس، بالإضافة إلى قاعدته الأولى في غريان والتي كانت تحتوي على غرفة القيادة المركزية قبل سقوطها أواخر يونيو/حزيران الماضي، مستفيداً من امتدادات قبيلة ترهونة جنوب شرق طرابلس، عبر دعم مسلحيها ومنحهم صفات ورتبا عسكرية. كما ساعد وجود مسلحين قبليين ينتمون لترهونة في مناطق وادي الربيع وقصر بن غشير وعين زاره، على سيطرة مليشيات "اللواء التاسع" على هذه المناطق.

وشدد المدني على تأثير مقتل القادة الثلاثة على "معنويات وقوة مليشيات حفتر التي تعتبرهم أبرز قادتها للخطوط الأمامية جنوب طرابلس".

وفيما اعتبر أن تأثير مقتل المقري سيكون له أثر كبير في قوة محوري خلة الفرجان وعين زاره لتبعية القوة المسيطرة عليهما له، قال المتحدث باسم مكتب الإعلام الحربي لقوات "الوفاق"، إن "مقتل محسن الكاني سيكون الأكثر تأثيراً، فهو القائد الأبرز لجميع هذه القوات"، مقللاً بشكل عام من قوة "مليشيات ترهونة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها". وأضاف المدني أن "حفتر يحاول المناورة والقول إنه لا يزال يملك قوة، فبعد مقتل القادة الثلاثة، جرى قصف مطار امعيتيقة (فجر أمس السبت)، وهي محاولة فاشلة تشبه جميع محاولاته السابقة".

وحول إمكانية تسريع مقتل الأخوين الكاني والمقري لعملية اقتحام ترهونة، قال المدني إن "الأمر بيد قادة الجيش، فهم من يحددون ساعة الصفر"، مؤكداً أن المدينة تعيش حالة حصار بعد سيطرة "الوفاق" على محاور مهمة حولها، وأن هذه القوات على أتم الجهوزية للسيطرة عليها.

​من جهتها، ورداً على مقتل القادة الثلاثة، أصدرت قيادة مليشيات حفتر بياناً طالبت "أهالي ترهونة بالثبات، فالوطن في حاجة إليكم، وإلى مواقف شهدائكم البطولية".

خطط متوازية
وكانت قوات حكومة الوفاق قد تمكنت في 28 أغسطس/آب الماضي، من اختراق الجدار الشمالي الدفاعي عن ترهونة بسيطرتها على كامل منطقة الزطارنة، ووقوفها على بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود الإدارية لترهونة، لينتهي التقدّم باتجاه المدينة بسيطرة "الوفاق" مجدداً، قبل أيام، على أجزاء من منطقة العربان (جنوب شرق المدينة) التي أصبحت تعيش حالياً حالة حصار حقيقية.

ويشير مسار قوات "الوفاق" إلى عملها على خطّين، الأول تضييق الحصار على ترهونة، والثاني تنفيذ ضربات جوية استباقية لقاعدة الجفرة التي تعد المركز الرئيسي لقيادة عملية حفتر على طرابلس، قبل اقتحامها، بعدما أكد العديد من قادة "الوفاق" أن هذه القاعدة هي أكبر أهدافهم لإنهاء عملية حفتر العسكرية بشكل كلي.

في المقابل، لا تزال قيادة مليشيات حفتر تعتبر سيطرتها على أجزاء من أحياء جنوب العاصمة، بالإضافة لولاء بعض مناطق غرب العاصمة كصبراتة وصرمان، استمراراً لوجودها، ودليلاً على قدرتها على مواصلة القتال لتنفيذ هدفها العسكري.

من جهته، قلل المدني من أهمية هذه التصريحات، واصفاً إياها بـ"ذرّ رماد في عيون مقاتلي حفتر، وإيهام لحلفائه بأنه لا يزال يمتلك زمام المبادرة في الغرب الليبي"، مؤكداً أن المدن التي لا تزال توالي حفتر، لا تشكل خطراً كبيراً، إذ إن ولاءها "شكلي" فقط، على حدّ قوله.

يذكر أنه وبالتوازي مع التحوّل الميداني، برز تحوّل آخر على الصعيد السياسي، فللمرة الأولى، استنكر المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، عملية حفتر على طرابلس بعد أشهر من الصمت المريب. وفي مقابلة مع صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، يوم الأحد الماضي، اعتبر سلامة أن عملية حفتر على طرابلس "إهانة" له، وللأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الذي كان حين انطلقت العملية في العاصمة الليبية، يعمل على وضع اللمسات الأخيرة لملتقى غدامس الجامع الذي كان من المقرر عقده منتصف إبريل/نيسان الماضي.

وجاء تصريح سلامة، المنتقد لحفتر، متضمناً إشارة إلى وهنٍ أصاب مليشيات الأخير وعمليته العسكرية، إذ أشار المبعوث الأممي إلى إمكانية قبول اللواء المتقاعد بسحب قوات مليشياته وفق شروط يضمن من خلالها مناصب في مواقع سيادية في الدولة، في وقت يضغط المجتمع الدولي باتجاه وقف القتال واستئناف العملية السياسية المتوقفة منذ إبريل/نيسان الماضي، وهو الاتجاه الذي تبنته دول داعمة لحفتر أيضاً مثل فرنسا التي استضافت قمة الدول السبع الكبرى الشهر الماضي، الذي نادى بضرورة وقف القتال وبدء حوار سياسي من أجل الذهاب إلى حلول سلمية للأزمة الليبية.

وفي وقت كان يرى فيه العديد من المراقبين أن دعم حلفاء حفتر لمسار وقف القتال وإعادة الحياة للعملية السياسية، ليس سوى محاولة لإنقاذ الأخير بعدما خسر معركة طرابلس فعلياً، ومحاولة للحفاظ على مواقعه التي سيطر عليها بالقرب من العاصمة، جاء بيان مجلس الأمن الدولي الأخير، قبل أيام، مؤكداً على شرعية حكومة "الوفاق" ومطالباً أعضاء مجلسه بعدم التواصل مع الجهات الموازية لها، وذلك من دون أن يتضمن أي إشارة لحفتر، الذي بدأ يفقد كثيراً من مصداقيته لدى الأمم المتحدة التي خفضت من مستوى توصيفاتها العسكرية السابقة، كاعتمادها صفة اللواء له، بدلاً من المشير، و"قوات حفتر" عوضاً عن "الجيش الوطني".

أما داخلياً، فيبدو أن حكومة الوفاق التي لا تزال تصر على موقفها الرافض لشراكة حفتر السياسية، تعول على عامل الوقت لاستباق أي حدث دولي من الممكن أن يصدر عن "الملتقى الدولي" الذي تعتزم الأمم المتحدة عقده خلال الفترة المقبلة، والذي لوحت ألمانيا بإمكانية استضافته. ويبدو أن الحكومة الليبية، في هذا الإطار، تعتمد اتجاهاً آخر موازياً لخط سير المعارك، إذ هي تسعى إلى إطلاق يد التيارات السياسية والمجتمعية في ليبيا التي قيّدتها حرب حفتر، وإشراكها في صياغة "رؤية وطنية للحل السياسي في ليبيا"، لدعم مبادرة رئيسها فايز السراج التي أطلقها في يونيو/حزيران الماضي، والتي تبدأ بعقد ملتقى ليبي-ليبي لصياغة حل سياسي، بعيداً عن حفتر، في تماهٍ مع المسار الدولي الداعي للوقف تصاعد العنف وضرورة إحلال السلام بين الليبيين، ومحاولة استثمار فشل حفتر العسكري دولياً بسبل شتى، بينها حث محكمة الجنايات الدولية على توثيق جرائم الحرب التي اقترفتها مليشيات الأخير، وذلك كله من أجل تحقيق هدفها باستبعاده من أي تسوية مقبلة.