لا مجال للمقارنة بين صفقة إطلاق 16 عسكرياً لبنانياً خطفتهم "جبهة النصرة" (فتح الشام) من بلدة عرسال، على حدود لبنان الشرقية مع سورية، عام 2014، وبين صفقة التبادل التي عقدها "حزب الله" مع "النصرة" قبل أيام. وعلى الرغم من أن الوسطاء المحليين كانوا أنفسهم خلال الصفقتين، إلا أن الصفقة الجديدة أعادت طرح التساؤلات عن علاقة الدولة اللبنانية المُلتبسة بالحزب المنخرط في الحرب السورية والمُمثل في البرلمان والحكومة.
يملك "حزب الله" يداً عُليا في لبنان نتيجة لقوته العسكرية التي تجاوزت مساحة لبنان، ووصل مقاتلوه ومستشاروه العسكريون إلى سورية والعراق واليمن في إطار إدارة معارك المحور الإيراني في المنطقة. وبعكس ما يروج الحزب من أن معركة السيطرة على مدينة القصير في ريف حمص عام 2013، كانت أولى معاركه في الداخل السوري، سبقت هذه المعركة مشاركة لعناصر الحزب في قتال مجموعات "الجيش السوري الحر" على طول حدود لبنان الشرقية الشمالية مع سورية، بحجة "حماية العائلات اللبنانية من اعتداءات المسلحين السوريين".
"ازدواجية قاتلة"
كشفت أحداث بلدة عرسال عام 2014، عن حجم التخبط العسكري والسياسي الكبير الذي تعاني منه إدارات الدولة اللبنانية، بعد سقوط مواقع الجيش الحدودية في عرسال بشكل سريع جداً بيد تنظيمي "النصرة" و"داعش" إثر توقيف قائد تنظيم "لواء فجر الإسلام"، أبو أحمد جمعة، الذي بايع "داعش".
وأسفرت المعركة عن مقتل عشرات المدنيين والعسكريين والمسلحين وأسر 36 عسكرياً لبنانياً توزعوا بين التنظيمين. وأسقط رصاص مجهول أُطلق في ساعات مُتأخرة من الليل على موكب يضم وفداً من "هيئة العلماء المسلمين"، محاولة وساطة بعدما حصلت الهيئة على تفويض رسمي من الحكومة بالتفاوض لإطلاق العسكريين عشية المعركة، وذلك بعد نجاحها في إطلاق عدد من العسكريين بعد خطفهم مباشرة. وحوّل الإعلام اللبناني التابع لأحزاب السلطة، الهيئة إلى شريكة للتنظيمات المُتطرفة، على الرغم من تعرض أعضائها للتكفير من قبل "داعش" وللرصاص المجهول الذي قتل الوساطة وأدى إلى تعرض أحد المشايخ لشلل دائم.
وتلاقت مواقف معظم الأحزاب السياسية مع توجهات مُطلقي الرصاص المجهولين على وفد الهيئة، فحرّم مسؤولو حزب الله التفاوض مع "الإرهابيين" كما حرّمت الدولة على نفسها خيار التفاوض في الأشهر الأولى للخطف. ويؤكد مصدر لبناني كان يتابع ملف التفاوض بشكل حثيث، أن "كل الأحزاب المشاركة في الحكومة (السابقة) برئاسة تمام سلام، رفضت التفاوض بعد إسقاط وساطة هيئة العلماء". ولم تتبن الحكومة مبدأ التفاوض لإطلاق العسكريين حتى أعدم التنظيمان ثلاثة من العسكريين. وفجأةً، أعلن "حزب الله" في بيان رسمي عام 2014، وبعد أشهر قليلة من خطف العسكريين، عن إنجاز صفقة تبادل مع "تجمع القلمون الغربي" التابع لـ"الجيش السوري الحر"، أطلق بموجبها عنصرين من "الحر" مقابل أحد عناصره الذي أُسر في القلمون السوري. وعلى عكس عمليات تبادل ميدانية سابقة أكدت مصادر لبنانية تنفيذها، أعلن الحزب في بيان رسمي عن إنجاز الصفقة، واستقبل نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب الشيخ نبيل قاووق، الأسير.
واليوم تكررت الازدواجية اللبنانية مع إنجاز صفقة تبادل جديدة بين "الإرهابيين" و"حزب الله" ولكن بوساطة ومشاركة وإشراف رسمي لبناني عبر المدير العام لجهاز الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم. وصف الرجل وساطته بالإنسانية "التي ستساهم في إطلاق لبنانيين (أسرى حزب الله لدى النصرة) ساهموا في حمايتنا، ومن واجبنا الإنساني أن نطلق سراحهم"، وفق تعبيره. ولم ينس إبراهيم توزيع الشكر وتعميم المساهمة في "تحقيق الإنجاز" على كافة القوى السياسية الرئيسية في البلاد، فشكر رئيس الحكومة، سعد الحريري، "أول الداعين لإنجاز المفاوضات"، بحسب قول إبراهيم. كما شكر رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الذي "تابع الملف منذ يومه الأول"، والجيش اللبناني "الذي سيرتاح من البؤرة الإرهابية على الحدود"، على حد تأكيد إبراهيم. وتجاوز اللواء ومن خلفه الدولة اللبنانية، الإصرار على رفض إطلاق موقوفين سوريين في السجون اللبنانية طالبت بهم "النصرة" مقابل إخلاء العسكريين قبل بدء مرحلة الإعدامات، وتحول إطلاق 3 موقوفين لدى السلطات اللبنانية مقابل أسرى الحزب لدى النصرة إلى "ثمن عادل".
ومع تكرار السيناريو، تتكرر مأساة أهالي العسكريين المخطوفين الذين شاهدوا إطلاق أسرى "حزب الله" أثناء اختطاف أبنائهم مرتين. وفي حين ترتفع وتيرة التحضيرات العسكرية التي يعدها الجيش لمهاجمة مواقع تنظيم "داعش" في جرود بلدات الفاكهة ورأس بعلبك والقاع، يبقى مصير العسكريين المخطوفين لدى التنظيم أسير المزايدات السياسية التي تشجع إطلاق العملية العسكرية، من دون تحديد مصير العسكريين أو مفاوضة "داعش" لإطلاقهم.
يشار إلى أن اللواء عباس إبراهيم أدى دوراً رئيساً في أكثر من محطة تفاوض مع "جبهة النصرة" وتنظيمات سورية أخرى. وتولى إدارة مفاوضات إطلاق الزوار اللبنانيين الذين اختطفوا في مدينة أعزاز السورية أثناء توجههم إلى العراق لزيارة مقامات دينية شيعية، والذين تبين وجود مقاتلين من "حزب الله" بينهم. كما فاوض "النصرة" لإطلاق سراح راهبات بلدة معلولا السورية في العام نفسه. وتولى أخيراً إدارة ملف المفاوضات بين "حزب الله" والنصرة".