تاريخ لبنان ينتظر انتهاء الحرب

13 ابريل 2015
من تشييع ضحايا معارك "7 أيار" 2008(باتريك باز/فرانس برس)
+ الخط -
فشلت السلطة اللبنانية في إنجاز كتاب موحّد للتاريخ، كما ينص اتفاق الطائف، رغم المحاولات العديدة. تمتد الخلافات من الموقف إزاء الدولة الأموية والسلطنة العثمانية إلى أسباب اندلاع الحرب الأهليّة ومسار أحداثها، في تعبير عن فشل اللبنانيين في تجاوز هذه الحرب.

أربعون عاماً مرت على انطلاق شرارة الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 ــ 1990). لا يبدو هذا التاريخ بعيداً جداً. يشعر المقيمون في لبنان بأن الحرب أقرب إليهم من السلم. ويشعر كثيرٌ منهم بأن الحرب لم تنتهِ فعلاً. لا تزال أدبياتها قائمة، كذلك الحال بالنسبة للتقسيم الجغرافي الذي أفرزته. في كلّ منطقة، مبانٍ تشهد على بشاعة هذه الحرب. وكلّ لبناني يعرف عائلةً فقدت عزيزاً ولا تعرف مصيره. أمراء الحرب لا يزالون حكام اليوم، بعدما تحوّلوا إلى قادة مرحلة السلم.

منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، يشعر اللبنانيون بأن أسباب الحرب عادت إلى المثول أمامهم. مرّت أحداث العنف على لبنان خلال السنوات العشر الماضية سريعة. في كلّ حادثة شعر اللبنانيّون بأن الحرب باغتتهم مجدداً. بلغ الأمر ذروته في أحداث السابع من مايو/أيار 2008، عندما احتل حزب الله شوارع بيروت، فيما شكّل "ميني حرب أهليّة". اقتربت الحرب من لبنان مراراً، من دون أن تنفجر لأسباب كثيرة، قد يكون أبرزها غياب توازن قوى داخليّ يسمح بذلك. فأي حرب تحتاج إلى طرفين يعتقدان أنهما قادران على الانتصار.

يبقى لغز كتاب التاريخ المدرسي الموحد، أمرا يؤرق من يُتابع هذا الملف. ففي عام 1994، وضعت خطة النهوض التربوي وتضمّنت الخطوط العامة للسياسة التربوية في لبنان، وفي عام 1997، بدأ تطبيق المناهج التربوية الحديثة، التي كان يجب أن تتضمّن كتاب التاريخ المدرسي الموحّد. لكن هذا الكتاب لم يُبصر النور حتى اليوم، إذ تم تأجيله مرّةً بعد أخرى، ولهذا الأمر أسباب كثيرة ودلالات مهمّة.

شُكلت لجان عدّة منذ تسعينيات القرن الماضي، وصدرت نسخة من كتاب التاريخ للحلقة التدريسيّة الأولى، وما لبثت أن سُحبت من التداول بعد الاعتراض عليها. ومنذ ذلك الحين، تدأب السلطات المعنيّة على تشكيل لجان من مؤرخين لبنانيين ووضع مسودات، لكنها لا ترى النور.

يوضح بعض المشاركين في مناقشات كتاب التاريخ العتيد لـ"العربي الجديد"، أن هذه اللجان شابتها دوماً لوثة المذهبية، إذ إن تشكيلها، وإن كان أعضاؤها من مؤرخين، فإنها كانت تخضع للتوازنات والحصص الطائفيّة.

بدأ النقاش حول كتاب التاريخ يأخذ طابعاً أكثر جديةً بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، "وقد بدأت المصارحة، لكنها ما لبثت أن انتهت مع اشتداد الخلاف السياسي" كما يقول أحد المشاركين في النقاش. ومن هذه الخطوات مصالحة حزب الكتائب مع منظمة التحرير الفلسطينية، واعتذار رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، في خطاب علني في ذكرى "شهداء القوات اللبنانية" عام 2008، عندما قال: "لقد أخطأنا في بعض الأوقات، كما قام أفراد منا بمخالفات لم نكن لنرتضيها (...) بعض هذه المخالفات كانت وللأسف الكبير شنيعة مؤذية" مضيفاً: "أتقدم باسمي وباسم أجيال المقاومين جميعا شهداء وأحياء، باعتذار عميق صادق وكامل عن كل جرح أو أذية أو خسارة أو ضرر غير مبرر تسببنا فيه خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية طوال مرحلة الحرب الماضية".

لكن في محصلة الأمر، لا يزال الطلاب اللبنانيون يدرسون في أكثر من عشرين نسخة من كتب التاريخ، ما يسمح للجماعات بأن تُدرس التاريخ كما تراه مناسباً للتعبئة التي ترغب فيها، مع وجود قواسم مشتركة في سنتي الشهادة المتوسطة والثانوي، إذ يخضع الطلاب خلالها لامتحان رسمي. لكن المنهاج الذي يخضع للامتحان، يقف عند حدود الحرب العالمية الثانية واستقلال لبنان.

في الشكل، لم يستطع اللبنانيون حتى اللحظة صياغة كتاب موحّد، رغم أن هذا الأمر ورد ذكره ضمن باب "الإصلاحات الأخرى" في وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) والتي أنهت الحرب الأهليّة، إذ يرد فيها ما يلي: "إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي، وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية". وهذا ما يدلّ على عدم تجاوز مسببات الحرب الأهليّة، وهو ما يُشير إليه بوضوح أحد أساتذة التاريخ في التعليم الرسمي، الذي يقول لـ"العربي الجديد"، إن "عدم كتابة تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة، يدل على أننا لم نستطع بعد حلّ أي من أسباب الحرب".

ويُضيف أن كل طائفة تنظر إلى التاريخ من منظورها بما يُناسب ويُلبي مصالحها الخاصة، "ونحن لا نزال نعيش في ظلّ كونفدرالية طوائف". كلام يُعبر عنه المؤرخ مسعود ضاهر في مقالة صحافية له: "يستخدم كتاب التاريخ المدرسي وسيلة أيديولوجية أساسية في المدارس الطائفية لنشر معرفة طائفية مشوهة تضمن ولاء التلميذ لزعيم الطائفة على حساب الولاء للوطن الواحد والموحد، من خلال نظام تعليمي غير مراقب ومتفلت من كل الضوابط التربوية والوطنية. وتستخدم معظم المدارس الطائفية الكتاب المدرسي وسيلة لتمرير أيديولوجية الجماعة الموحدة والمتماسكة في مواجهة جماعة أخرى. ولا يجد مؤلف كتاب التاريخ المدرسي حرجا في تشويه الوقائع التاريخية المنشورة في المصادر التاريخية وانتقاء ما يخدم زعماء الطائفة وتضخيم دورها في تاريخ لبنان".

ويشرح هذا الأستاذ وجهة نظره بالقول إن ما يُكرّره بعض السياسيين والمؤرخين من أن ذكر أحداث حصلت في الحرب الأهليّة سيُعيد نكء جراح هذه الحرب، وعودة الخلافات إلى السطح، يعني أن الحديث عن مصالحة وطنية جرت بعد انتهاء الحرب أمر غير صحيح. فلو تمّت المصالحة، لكان ذكر الأحداث أمرا أكثر من طبيعي.

ويذهب أحد المشاركين في نقاشات كتاب التاريخ إلى القول إن الأزمة كانت في طريقة العمل التي اعتُمدت، والتي غابت عنها القواعد العلمية لصالح القواعد السياسيّة، وغلب عليها مبدأ "ستة وستة مكرّر" (أي افتعال التوازن الطائفي). ويُضيف هذا المشارك بأن كتاب التاريخ يُعبّر عن التوافق على الهوية، وهو ما يفتقد له لبنان حتى الآن.

إذاً هي أزمة هوية، ونتيجة طبيعية لعدم إجراء مصالحة حقيقيّة، إذ بعد أربعين عاماً، لا يزال النقاش حول أسباب اندلاع الحرب على حاله، كل فريق يُحمّل المسؤوليّة للآخر. كما أنها تعبير عن غياب المنتصر في الحرب الأهليّة التي جرت؛ "ففي العادة يكتب المنتصر التاريخ كما يراه، أما في لبنان فلم ينتصر أحد، بل سادت نظرية لا غالب ولا مغلوب، مضافاً إليها تكريس النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفيّة".

وللدلالة على حجم المشكلة التي تواجهها السلطات المعنية في صياغة كتاب تاريخ للبنان، أو وضع عناوين ملزمة لأي كتاب تاريخ خاص، انطلاقاً من أن الدستور اللبناني يكفل في مادته العاشرة "التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب، ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية"، تجدر الإشارة إلى الملاحظات التالية، وهي عينة من الكلام الذي يُمكن إيراده على نسخة كتاب التاريخ التي درستها لجنة وزارية عام 2011:

ــ غياب أي ذكر للأرمن في لبنان، وهم يُشكلون نحو 7 في المائة من سكان لبنان، كما لا يرد ذكر الأكراد.

ــ لم تُذكر في تلك النسخة إلا حرب الجبل (بين الدروز والمسيحيين خريف عام 1983)، ولم يرد ذكر حصار المخيمات الفلسطينية التي قام الجيش السوري وبعض حلفائه، ومن أبرزهم حركة أمل (1985 ــ 1988)، أو معارك إقليم التفاح بين حركة أمل وحزب الله (1989 ــ 1990)، أو حرب الإلغاء بين القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وبعض وحدات الجيش اللبناني بقيادة قائد الجيش حينها ميشال عون.

ــ الخلاف على الموقف من دخول الجيش السوري إلى لبنان، وهل كان احتلالاً أم "دخول الجيش السوري ودوره في إدارة الأزمة" كما في ورد في النسخة. إضافة إلى عدم الإشارة إلى حصار الجيش السوري لبعض المدن اللبنانية (حصار زحلة والأشرفية).

ــ ذكر مجزرة صبرا وشاتيلا (نفذتها القوات الإسرائيلية ومليشيات لبنانية عام 1982)، دون غيرها من المجازر التي حصلت في الحرب الأهليّة، ومهّدت لنزوح ديمغرافي.

ــ عدم ذكر محطات أساسيّة من المقاومة اللبنانيّة ضدّ إسرائيل، وخصوصاً محطة إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عام 1982.

وإضافةً إلى هذه الملاحظات، تجدر الإشارة إلى استمرار الخلاف بين الأطراف اللبنانيّة حول تعريف السلطنة العثمانية، هل "احتلت لبنان" أم "حكمت لبنان"؟ كذلك الموقف من الحروب الصليبيّة، والدولة الأموية في الأندلس.

قبل أيّام، قال وزير التربية والتعليم العالي اللبناني، إلياس بوصعب، إن "منهج كتاب التاريخ أصبح مثل قصة إبريق الزيت، وهو من الأمور التي وصلنا إلى معالجتها بنسبة 95 في المائة، ونأمل أن يحظى بالتطوير في الفترة الآتية ويصبح قيد التطبيق"، وأضاف خلال مؤتمرٍ صحافي عقده في السابع من الشهر الحالي أن "هناك توافقا سياسيا، وقد أجرينا بعض التعديلات، ونأمل أن نتوصل إلى صياغة نهائية في الأسبوع المقبل (هذا الأسبوع) لعرضه على مجلس الوزراء".

وسبق لبوصعب، أن قال كلاماً مشابهاً في بداية عام 2014، من دون أن يستطيع تحقيق هذا الأمر. ويقول بوصعب لـ"لعربي الجديد": "أخذنا بالتعديلات التي طلبتها رئاسة الحكومة، وبتُّ جاهزاً لأرسل النسخة إلى رئاسة الحكومة، التي تُقرر متى تعرضه على المجلس". ويضيف بو صعب: "جهدنا لأخذ كل الهواجس والملاحظات بعين الاعتبار ووضعنا منهجاً محايداً، لكن قد يكون لدى البعض ملاحظات جديدة".

المساهمون