ولا يمكن استحضار تاريخ هذه الصناعة بعيداً عن مدينة مغربية، ساهمت في صنع هذا المجد الذي بوأ للمغرب مكانة اقتصادية مهمة، وهي تارودانت.
سبعة معامل سكر في تارودانت
اكتست صناعة السكر أهمية بالغة في المغرب، ويرى العديد من المؤرخين تاريخ ظهور هذه الزراعة في الغرب الإسلامي قد تم في عهود قد خلت، ويرجحون انتشارها ببلدان الشرق الأوسط، لاسيما في مصر قبل أن تغزو قبرص وصقلية وإسبانيا لتصل إلى المغرب مع نهاية القرن الثالث عشر.
وقد أدرك ملوك الدولة السعدية الأوائل أهمية هذه الصناعة، فلم يكد يستتب لهم أمر حتى صرفوا إليها كبير اهتمامهم ووظفوا فيها أموالاً ضخمة واستعانوا بأمهر الصناع وأحذق التقنيين في كل ما يلزم لها، فأمر فاتح فاس بإنشاء سبعة معامل للسكر في تارودانت.
وكانت هذه المعامل عبارة عن مركبات ضخمة للصناعة تمتد كل واحدة منها على مساحات شاسعة وتستعمل الطاقة المائية لإدارة أرحيتها الحجرية الضخمة بدلاً من الطاقة البشرية والحيوانية، وتضم معمل الطحن والعصر وأفران الطبخ والتكرير، وإلى جانب معامل الخزف الطيني التي تتخذ منه القوارير الهرمية المخروطية التي يفرغ فيها السكر لتشكيله وإخراجه في قوالب لا تختلف عن القالب المخروطي المعروف حالياً إلا في تعدد أحجامها.
هذا، إلى جانب مرابط الدواب ومخازن السكر ومحلات تجميع الآلات وصنعها وإصلاحها، ومستودعات الأعلاف التي تتكون من بقايا القصب المعصور، وهذه من الأعلاف الجيدة وتذكر ضمن بضائع الصادرات.
وبجانب كل معمل قرية لسكنى العمال الذين يعدون بالمئات. يقول أحد المؤرخين في وصف هذه المعامل "وإذا ألقيت عصا التسيار بمعصرة منها، رأيت مجمع الورى وأول الحشر، وقرية النمل وكورة النحل ومرج الذر لكثرة ما ضمت من العملة، وحشرت من الخلق، ولا تسأل عن هولها ولغلط الأصوات بها تدل على عظمة شأنها، وضخامة أحوالها".
معاصر سوس ما تزال أطلالها قائمة، وقد شبه مؤرخ معاصر السكر في تارودانت بـ "أهرام مصر، يتقاصر عن تشييدها أولو القوة من عاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد".
تازمورت وإيميز مجرد أطلال
توجد أطلال هذه المعامل، إلى يومنا هذا، بضواحي تارودانت في قريتي أولاد مسعود وفي تازمورت وإيميز، وغيرها وهي موزعة على مواقع متباعدة نسبياً حول المدينة، وذلك راجع إلى أن قصب السكر يتعين طحنه وعصره فور حصاده وبأقصى سرعة قبل أن يذبل وتجف فيه المادة السكرية، فهذه الحقيقة قد تنبه لها تقنيو ذلك العهد فوزعوا المعامل على المناطق التي تتجمع فيها كل الشروط من تيار مائي لإدارة الطواحين، وتربة خصبة لزراعة القصب، فكان الماء المستعمل في الطحن يجمع في صهاريج ضخمة ليسقي الحقول بانتظام. ويلاحظ أن أوقات طحن القصب يصادف أوقات الفيضان في شهر يناير الذي تعزز فيه المياه عادة.
ثورة صناعية لم تكتمل
استفادت خزينة الدولة من تجارة السكر بفضل تصدير جزء من المنتوج إلى إفريقيا جنوب الصحراء عبر القوافل التجارية والجزء الأكبر نحو أوروبا، كما كان الملوك السعديون يقطعون العمل في هذه المؤسسات لبعض أهل الذمة مقابل أموال ضخمة، فجبت منهم أوفر جباية.
وهكذا يبدو أن المغرب، وانطلاقاً من بلاد سوس، ومن تارودانت بالذات كان قد وضع أقدامه على أبواب ثورة صناعية حقيقية، منذ أواخر القرن السادس عشر، غير أنه لم تلبث هذه المشاريع أن عصفت بها تقلبات الدهر فمنيت بنكسة مفاجئة بفعل مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، فتوقف تصدير السكر المغربي، وأهملت مؤسسات الدولة التي كانت تعنى أكثر من غيرها بزراعته وتصنيعه، ثم ارتفعت بعدئذ أسعار السكر الأميركي.
وعلى الرغم من الشهادات التاريخية القيمة التي يمكن جمعها بخصوص السياسة الاقتصادية للسلاطين السعديين في مغرب القرن 16، فإن معاصر السكر مازالت تقاوم، اليوم، النسيان وقد تحولت إلى مجرد أطلال تبكي مجداً تليداً.
اقرأ أيضاً: جنيفر لورانس تضفي "البهجة" على دور السينما الأميركية