تاريخ تحت القصف: براقش التي لم تجن على نفسها

07 ابريل 2020
(مليشيات في مأرب/ 2016، Getty)
+ الخط -

كغيرها من آثار ممالك اليمن القديمة، عانت مدينة براقش التاريخية، في محافظة الجوف شمال البلاد، من الحرب المستمرّة منذ ما يزيد على خمس سنوات، كانت خلالها هدفاً لطائرات التحالف السعودي الإماراتي التي اتّخذت من البلد مسرحاً لعملياتها العدوانية، فأتت على كل شيء، تاركةً، إلى جانب المواجهات الداخلية، دماراً محى كثيراً من بقايا أممٍ لم تلق حقّها من الاهتمام من قبل حكومات اليمن المتعاقبة.

مع مطلع العام الجاري، ارتفعت وتيرة المواجهات بين قوّات التحالف والحوثيّين في الجبهة الشرقية للعاصمة صنعاء، ولم تتوقّف حتى اليوم. شهدت المعارك تصعيداً كبيراً انتهى بانهزام التحالف في جبال نهم الوعرة وتراجعهم إلى صحراء الجوف ومأرب التاريخيّتين، حيث تبقى النقوش السبئية شواهد على حضارات متجذّرة في تاريخ العربية السعيدة، وموروثها الأثري الكبير، لتتحول المحافظتان إلى حلبة صراع تعيد استذكار الحملات الرومانية على مملكتي معين وسبأ بين القرنين السابع والأول قبل الميلاد.

من بين تلك الآثار، مدينة براقش، والتي تُعرَف في كتب التاريخ القديمة والنقوش المسندية، بـ "يثل" وهي العاصمة الدينية لمملكة معين، التي اتخذت من وادي الجوف مقرّاً للدولة المعينية (1300 - 1650 ق.م)، واستمرّت في أوج ازدهارها إلى أن هجرها سكّانها مع الحملة الرومانية على مدينة مأرب، عاصمة سبأ، بقيادة إليوس جاليوس، في السنة الرابعة بعد العقد الثاني قبل الميلاد، حيث دُمِّرت مدن الجوف وانكسر الرومان قبل وصولهم إلى العاصمة.

تعرّضت المدينة في عامي 2015 و2016 لعشرات الغارات الجوية من مقاتلات التحالف، بدعوى اتخاذ الحوثيّين منها قلعة للقيادة العسكرية ومخزناً رئيسياً لأسلحتهم، بيد أنّ هؤلاء ينفون ذلك، ويستدلّون بخلو المدينة من البنايات واحتوائها على آثار توثّق لهوية تاريخية ودينية يقولون إنهم يدافعون عنها أمام من يسعى إلى طمسها، أي التحالف. وبين البينين، كانت المدينة الضحية الأكثر تأثّراً؛ فالدمار طاول أجزاء من سورها العملاق وبعض أبراج الحراسة المنتشرة على كافة جوانبه وحتى أجزاء من المعبد الداخلي.

لم تستمر المعارك في براقش كثيراً؛ فسرعان ما انسحب الحوثيّون من الوادي إلى جبال نهم. تلا ذلك "استحداثات معمارية داخل المدينة لإنشاء المعبد من جديد"، كما جاء في حديث مصدر فضّل عدم ذكر هويته، يقول أيضاً لـ "العربي الجديد" بقيام "بعض المتمترسين فيها، من قوّات التحالف ("الجيش الوطني" ومتطوّعون شباب بمقابل مادي تدفعه السعودية)، وأهالي المدينة الحديثة، بالحفر للتنقيب عن الكنوز والآثار من دون مبالاة بأهمية الحفاظ على تاريخها؛ لأن هناك من يدفع لهم مبالغ طائلة لقاء اقتنائها".

مؤخراً، وبعد تغيّر المعادلة، سيطر ما يُعرف بالجيش واللّجان، التابعَين لجماعة أنصار الله (الحوثيّين)، على الوادي من جديد، واستولوا على براقش وجميع مديريات الجوف إلّا قليلاً، خلال ستة أيام فقط، فعادت طائرات التحالف لاستهدافها بشكل أعنف، وألحقت بها أضراراً كبيرة، إلى جانب الدمار الذي خلّفته المواجهات الداخلية.

تضمّ المدينة معالم تاريخية لا يزال معظمها مطموراً تحت أنقاض المنازل المهدّمة (معمورة من اللبن)، ولها سور كبير يوثّق مرحلة من ازدهار هندسة المعمار في جنوب الجزيرة العربية، شيّده المعينيّون من الأحجار الغرانيتية المهندمة على أساس من الأحجار الضخمة، يتراوح حجمها بين ثلاثة أمتار طولاً ونصف متر عرضاً، ويتوزّع عليه 57 برجاً للمراقبة والحماية وإطلاق السهام، لم يتبق منها سوى برج واحد يبلغ ارتفاعه 15 متراً، فيما البقية متهدّمة جزئياً رغم ارتفاع بعضها إلى 18 متراً. وجرى نقش الواجهة الخارجية لأحجار السور بثلاث تشكيلات هندسية، وله بوابة رئيسية في الركن الغربي محمية بثلاثة أبراج تتقدّمها ساحة مغلقة من ثلاثة جوانب، وربما له بوابة ثانية من الجزء الشمالي المطمور تحت التراب.

ساعد سور المدينة الحصين، وقيام الأخيرة على تبّة مرتفعة عن الوادي، على حمايتها أمام الحملات الرومانية، فلم تتمكّن من تدميرها ونهب ثروتها مثلما حصل لبقية مدن الجوف، كما أن التعاقب السكني داخل المدينة في العصر الإسلامي وإعادة استعمال أنقاض المباني لم يؤثّر عليها بفضل السور الذي ظلّ صامداً كل تلك الأزمنة، لكنّه لم يستطع الصمود أمام تطوّر آلة الحرب شديدة الأثر كطائرات إف 15 وإف 16، التي يملكها التحالف، وتلقي بغاراتها في اليمن من دون مبالاة، فانتهى الحال بتدمير ما تبقى من أجزائه.

مثّلت براقش عاصمة دينية لمملكة معين؛ حيث احتضنت العديد من المعابد المنتصبة داخلها وحولها، لعلّ أبرزها معبد "عشترا"، ويقع في جزء المدينة الجنوبي وبه 16 عموداً رأسياً وأفقياً، إلى جانب معبدَين آخرين هما "نكرح" و"ذات حميم"، بينما بقية المعابد خارج سورها.

وبها العديد من النقوش الحجرية المحفورة بخط المسند على أعمدة المعابد ومداميك البنايات والسور والأبراج، وتقول بازدهار المدينة في القرن الخامس قبل الميلاد، كمحطة رئيسية على طريق تجارة المُرّ والبخور بين بحر العرب وشمال الجزيرة، وتحكي بعض النقوش أن الإله عشترا قد قبل من التجّار بناء سور المدينة مقابل إعفائهم من الضريبة. كما ازدهرت المدينة لأسباب دينية، لأن المعينيّين كانوا يحجّون إليها كل عام.

ذلك التاريخ، ظلت براقش محتفظة به إلى ما قبل الحرب التي تقودها السعودية والإمارات على اليمن منذ آذار/مارس 2015، وهو اليوم ضحية لأطراف الصراع الداخلية وهوس بلدَي التحالف باختلاق تاريخ من العدم، مقابل تدمير ونهب آثار اليمن، وهو توجُّهٌ يزيده تأكيداً ادّعاء مقدّم برنامج تلفزيوني على إحدى القنوات التابعة للسعودية وجود آثار تؤكّد، حسب زعمه، أنّ الملكة بلقيس (ملكة سبأ) عاشت وحكمت في دومة الجندل جنوب ما تُعرَف اليوم بالسعودية، وليس في اليمن.

كان الحديث عن "بلقيس السعودية" مُثيراً للسخرية والغرابة في آن، لكنه يكشف من جهةٍ أُخرى سكوت "التحالف" على سلب تاريخ اليمن وإخفاء آثاره؛ سواء بتهريبها من خلال السماسرة واقتنائها بأثمان باهظة تشجّع على مزيد من بيع التاريخ، أو باستهدافها كما حصل لآثار ممالك سبأ وحمير ومعين وتبّع وقتبان وغيرها في مأرب والجوف وتعز وظفار وصنعاء وزبيد وصعدة وذمار وإب وغيرها.

وحتى اليوم، لا يزال حلفاء السعودية والإمارات يغضّون الطرف عن كل هذا التجريف، كواحد من الافتراضات، بينما لا يزال المسؤولون عن الآثار في صنعاء ومأرب يتجنّبون الإجابة عن أسئلتنا حول تفاصيل الدمار الذي لحق بمدينة براقش وكل المدن التاريخية، ربما لفظاعته، بيد أن مدير عام حماية الآثار والممتلكات الثقافية في "الهيئة العامة للآثار والمتاحف"، عبد الكريم البركاني، يقول إنَّ القصف الجوي دمّر قرابة عشرين في المائة منها حتى عام 2016.

يقول البركاني إنه لا يملك اليوم أية معلومات حديثة عن المدينة؛ لأن ذلك يحتاج إلى فريق متخصّص لحصر الأثر، ما يعني تحديد مبلغ من المال كميزانية للمسح، وهذا شيء يصعب في وضع اليمن الحالي، لكنه قد يتحقّق خلال الوقت القليل المقبل، على حد قوله، في حديثه إلى "العربي الجديد". وإلى جانب ذلك، يصعب الوصول إلى براقش مع استمرار قصف التحالف للمدينة، ما يتطلّب فريقاً من "منظّمة الأمم المتحدة للثقافة والتراث" (يونيسكو)، وهو ما طالب به الحوثيون.

لم تجن براقش هذه المرّة على نفسها، بل أطراف الحرب الخارجيةُ والداخلية هم من جنوا عليها؛ فالحديث عن قصفها يعود بنا إلى حقيقة موافقة "الحكومة الشرعية" على كل طلعات التحالف الجوية، وعلى جعلها ساحة حرب داخلية. وحول ذلك، يذكّر رئيس "الهيئة العامة للآثار والمتاحف"، مهند السياني، في حديثه إلى "العربي الجديد"، بالخطابات المتكرّرة التي وجّهتها الهيئة لأطراف الصراع للابتعاد عن المعالم التاريخية والأثرية وتجنيبها نيران الحرب، وهو ما لم يتحقّق إلى اليوم.

وباستمرار الحرب يستمر استنزاف تاريخ اليمن، ويُتاح المزيد من الوقت لتدمير ما تبقّى من موروثه الأثري، وتزييف هويته وطمس معالمه الحضارية وإخفاء ملامحه الثقافية المحفورة في أطلال تلك الممالك الشهيرة.

المساهمون