"أتيت من عالم العنف، إنه يسري في دمي، كان والدي كذلك، ووالده من قبله، كان ذلك قدري.. من هو البريء؟ هل أنت بريء؟ إنه مجرد قتل، كل كائنات الله تفعل ذلك، بشكل أو بآخر، انظر إلى الغابة، نحن نقتل كل تلك الكائنات والغابة معها، ولكننا نسميها "الصناعة" لا "القتل"، لكنني أعرف أيضاً أن الكثير من الناس يستحقون القتل، كل شخص قد اقترف خطيئة ما في الماضي، عاراً ما، سرّاً ما، كثير من الناس يمشون على الأرض هم بحكم الموتى، لكنهم يحتاجون من يخلصهم من هذا العذاب، وهنا بدأت مهمتي.. أنا رسول القدر"
يقول ميكي نوكس للمذيع الذي يصور معه مقابلة من داخل السجن، ميكي السفاح الذي شكّل مع حبيبته ثنائي قتل أخذ شهرة سريعة وغدا محبوباً شعبيّاً بعد سلسلة من العنف العشوائي المصوّر غالباً، أصبحا كنجوم السينما، لهما جمهور عريض يحبهما ويتظاهر لأجلهما ويرفع صورهما، رغم أنهم قد يُقتلون على أيديهما في متجر ما أو نزوة ما للثنائي الذي يحمل معه القتل ويمارسه بمتعة وابتهاج احتفالي.
يجري هذا في فيلم "Natural born killers" الذي كتبه المخرج الأميركي كوانتين تارنتينو، وأخرجه أوليفر ستون، "لقدْ وُلدنا قتلة"، يقدم تارنتينو وستون جذور الثنائي القاتل عبر "مسلسل تلفزيوني" مفرط في المسرحية داخل الفيلم، وكأن تلك الحياة المليئة بالفساد العائلي والبشاعة كنمط حياة لم تكن حياة خاصة، بل هي حياة ضمن الفضاء العام ودلالة عليه، باعتبارها تُقدم للمجتمع عبر الصورة، كما قُدّم العنف عبر الصورة.
إنها قضية داخلية إذن، عنف يقع على المجتمع والدولة، جذوره من داخل المجتمع والدولة، إنها منظومة عنف، ولم يفعل ميكي نوكس سوى أن مارس منطق المنظومة خارج أطر "المعتمد المكرّس" أو ضدّها، أو بالأحرى فضحه عبر الصورة، ويفضح هذا الثنائي الفاشية العميقة لدى هذا المجتمع المتعطش للعنف، والممجد للقاتل، حتى لو كان قاتله هو، متى لم تكف الشعوب عن تمجيد العنف الممارس ضدّها بالذات، وتتخلى عن حريتها لصالح هذا العنف، هذه الإشكالية "النازية" التي أرّقت إريك فروم، فألّف كتابه الذي لا يكف عن التفسير: "الخوف من الحرية".
تغدو الصورة هنا مقصداً بذاتها لفعل القتل لا مجرد قيمة مضافة، باعتبارها جوهر الحداثة وأداة تمثيل المجتمع إن لم تكن تشكيله، إنه عصر موت الواقع لصالح الصورة كما تنبأ جان بودريار، حيث يغدو الواقع مجموعة من التمثيلات التي تحيل إلى تمثيلات موازية، والواقع يموت تحت سطح حلقة تمثيلاته المغلقة هذه، السياسة إذن هي لعبة التمثيلات، هذا ما حصل في حرب الخليج حسب رأي بودريار.
هذه كانت فكرة فيلم المخرج باري لافينسون "wag the dog" المأخوذ عن كتاب، يستعين مستشار الرئيس (روبرت دي نيرو) بمخرج سينمائي (دستن هوفمان) ليقوم بحرب في ألبانيا تغطي على فضيحة جنسية للرئيس قرب موعد الانتخابات، يكون ثمة أبطال وضحايا وشهداء، ويجيّش الرأي العام وأغانٍ تمجد الجيش ويغدو الاعتصام بحبل الرئيس ضرورة المرحلة، وفي الواقع ليس ثمة غير الصورة.
إن الحداثة تعني هيمنة الصورة، هذه الفكرة ألهمت سلسلة من الأفلام (نقد الصورة بالصورة) لعل آخرها كان فيلم المخرج دايفيد فينشر "Gone Girl"، يُدان الزوج (بن أفليك) باختفاء زوجته، ثم يبرأ ثم يُدان رجل آخر ثم تظهر الزوجة الفاتنة، إن الجريمة والمجرم هنا يغدوان واضحين لكل من لهم علاقة بالقصة في الواقع (لا عبر الصورة)، حتى للشرطة نفسها، ولكن صورة الشقراء (الفاتنة جدّاً) والمثقفة الضحية لعنف الرجل وغرائزيته، حسب سردية المظلومية النسوية هي التي تنتصر، وعبر إتقان الصورة ولعبة الإعلام وحدها، لقد انتصرت الصورة في النهاية وغدا المجرم الضحية وانتحب العقل (الذي كانت تمثله شقيقة الزوج).
عودة لفيلم تارانتينو وأوليفر ستون، فإنه داخل منظومة العنف الحداثية هذه لا قيمة أخلاقية لحماية الحياة الفردية، ما دامت مشرّعة للعنف بالضرورة أو خاضعة له وفاقدة لفرادتها الإنسانية، ترسٌ في آلة حسب تعبير المعماري الشهير لوكوربوزييه عن وظائفية البيت الحديث وموقع الإنسان فيه، أو مجرد بيض نكسره لأجل العجة، كما يقول لينين، أو "دار كفر" يباح دماء من فيها باعتبارهم موالين للكفار والجاهلية كما تقول السلفية الجهادية، وعلى امتداد الفيلم وعشرات حالات القتل العنيف والوحشي والدموي، في شعائرية طقوسية واحتفالية مبتهجة، لا يظهر ندم الثنائي القاتل إلا على حالة قتل واحدة، حين قتلا رجلاً من الهنود الحمر استضافهما في بيته وقرأ عليهما من تعاويذه، إنه قتل مدان ولا أخلاقي وأدى حتى إلى انفصالهما (المؤقت) لأن هذا الرجل لم يدخل في منظومة العنف الحداثية، حينها فقط سفكا روحاً.
المصور نفسه في فيلم تارانتينو وستون، يشارك الثنائي القاتل في حفلة العنف الجماعي التي يثيرانها في السجن، يحرره القتل، ويبهجه، ويكتشف بسعادة كم كان مقيّداً قبله، ومجرد موضوع للمنظومة، ولكن هذا المصور نفسه الذي ينقذهما من الموت يكون ختاماً ضروريا لسلسلة العنف، وبدون ضغينة من قاتله، بل بابتهاج آخر وهو يقول له "لإقناعه":
"أنت آخر شخص سنقتله يا واين، الأمر لا يتعلق بك أيها المصاب بجنون العظمة، أنا معجب بك، لكن إن تركناك فستكون كبقية الناس، وقتلك وما تمثله هو تصريح مهم... لا أعرف ماذا يقول هذا التصريح، لكن فرانكشتاين قتل مخترعه". فيرد عليه واين بغضب: "ألستما قاتِلَين؟، أنتم لنا، للعموم... للإعلام"
هكذا حين تبحث تيارات العنف المجتمعي، العنف المحض، عن دلالة أو مرجعية من خارجها، فستكون غالباً تلفيقية، إنها لا تعرفها ببساطة، وإنما قد تبحث عنها بأثر رجعي، وقد يقتنع مدمنو العنف هؤلاء أن هذه المرجعيات مرجعياتهم وبواعثهم لممارسة التمرد والتدمير حقّاً، ولكن ضمن أي سياق أصبح هذا النصّ ثوريّاً أو دافعاً للقتال، ولم يكن كذلك في سياقات أخرى، بل كان على النقيض، هذا ما يغفله التعويل المبالغ به على المرجعية النصوصية والتراثية، لعنف الحركات ما بعد الحداثية (جهادية وغيرها)، دون أن ننفي بالمطلق حضور هذه النصوص كدافع لا كتبرير فقط.
تارانتينو، الذي كان كاتب هذا الفيلم، تتكرر في أفلامه التي أخرجها التيمة الأبرز في هذا الفيلم، إنها احتفالية العنف البهيج، والوحشية الكوميدية، مشاهد ينبغي ان تكون صادمة للوعي الناعم (كما نتخيل ترف الحياة الحديثة)، تتم في إطار كوميدي ولامبالٍ غالباً، وبشخوص هم مواضيع ثقافوية (أو ممثلون لثقافات) أكثر مما هم شخوص، قطع أطراف بشرية ورؤوس بالسيف على يد امرأة "Kill Bill" أو بتر أذن بشرية (Reservoir Dogs) أو كلاب تأكل زنجيّاً حيّاً ونار تحرق آخر "Django Unchained" أو تقشير جلدة الجمجمة لضحية على قيد الحياة "Ingulorious Basterds"، وغالباً ما تُمارس هذه الوحشية كانتقام للمظلوم ضد الظالم، وإن كان (وهذا أحد هوايات تارنتينو اللذيذة) بإعادة سرد التاريخ لتنتصر الضحية.
يقول جاك دريدا تعليقاً على حادثة 11 أيلول/سبتمبر، "إن أكثر ما هو مرعب في هذا الإرهاب ضد الغرب، هو أنه وليد الغرب نفسه، وبأدوات الغرب نفسه، إنه عنف الحداثة ضد الحداثة، وليس عنفاً من خارجها".
في تعليقه على الحادثة نفسها اعتبر جان بودريار أن "القاعدة عنف مضاد لعنف العولمة، ولا ينبغي فهم هذا العنف المعولم خارج سياق العنف الموسع، والموجه الذي مارسته سياسات الغرب نفسه، دون أن يجعل ذلك أيّاً من العنفين أخلاقيّاً، حسب رأيه.
أما داعش فقد تجاوزت القاعدة بمراحل في قدرتها على استخدام أدوات الحداثة، وفي حرصها على "عولمة" الصورة، وقناعتها بمركزية هذه "الصورة" في العالم الراهن، تمارس داعش أشكالاً من العنف والوحشية ضد خصومها وضد المدنيين، سبق أن مارسته الميليشيات والجيوش، (ولا داعي هنا لعقد مقارنات إحصائية بجرائم كلّ منها أو إعلان موقف من عنف داعش التي يعتبرها كاتب المقال، كغيره من الثوار السوريين عدوّاً مطلقاً كنظام الأسد)، ولكنها كانت الأحرص على إتقان صورة العنف، وتقديم مشاهد طقوسية متقنة تفضح الموت ولا تؤنقه بالسلاح الحديث، ولكن هذا بالضبط ما يجعل من هذا العنف حداثيّاً بامتياز، إنها الصورة التي تغدو مقصداً للقتل بحد ذاتها، وصناعة معقدة تمثل الواقع وتشكله، وبوابة العبور نحو العالم.
وهنا لا يكون الفعل الأفظع أخلاقيّاً وإنسانيّاً هو الأحق بتعاطف الجمهور، وإنما الفعل الذي استطاعت الصورة أن تؤكد فظاعته، فلا صور المحروقين في داريا أو حلب أو الغوطة أو حمص (...إلخ) على يد نظام الأسد، أو المحروقين في رابعة على يد نظام الانقلاب المصري، أو المحروقين في بغداد على يد المليشيات الشيعية، استطاعت اكتساب الفجائعية المعولمة لحادثة إحراق البشر أحياء، كحادثة إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً، لا لكونها أقلّ عنفاً، وإنما لأن الصورة واهتمام الإعلام كانت أقلّ تركيزاً هناك.
اللافت هنا أن الرهائن السابقين لمعاذ لم يكتسبوا هذا التعاطف نفسه، رغم وضوح موقعهم كضحية باعتبارهم وُجدوا في سورية، لغايات التعاطف مع الثورة السورية، أكثر من الطيار المقاتل بطبيعة الحال، لأن صورة الذبح استنفدت إمكانيات الدهشة، هذا ما أدركه إعلام داعش الذي اختار أن يبدع في صورة العنف لأهمية هذا الأسير الاستثنائية.
تبحث أغلب التأويلات لعنف داعش الوحشي والدموي عن جذور تراثية لهذا العنف، مغفلة المنظومة الحداثية التي تشكل جذراً أقرب للصورة التي يقدّم بها هذا العنف، والتي يطمح لمحاكاتها، وبأدواتها نفسها، خاصة أن أغلب التوقعات بشأن المخرجين لإصدارات داعش الأخيرة تدور حول أوروبيين انتقلوا إلى "أرض الخلافة"، ولعل هؤلاء لم يقرؤوا لابن تيمية أو القاضي عياض ولا فتحوا كثيراً من الكتب، ولكنهم لا شك شاهدوا كثيراً من الأفلام، ويقدمون ميزة لم يستطع مبدعو هوليوود توفيرها، أصبح عنف الصورة حقيقيّاً هذه المرة.
(سورية)