بَريل ماغوكو: البحث عن كرامة مُهانة

10 يناير 2020
الكينية بَريل ماغوكو: ألم الإهانة (فيسبوك)
+ الخط -
في فيلمها الوثائقي الأخير، "في البحث" (In Search)، الذي أنجزته عام 2018 ـ الفائز بالجائزة الكبرى (الحاملة هذا العام اسم الناقد الروائي المغربي سعيد يقطين) في الدورة الـ11 (18 ـ 21 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة" (وسط المغرب) ـ تحفر المخرجة الكينية بَريل ماغوكو في تجربة أليمة. حديثٌ مستَرسَلٌ عن انتهاك جسدي في الصغر، تكبر تبعاته. عندما تسمع المخرجة الشابة، المُهاجرة إلى ألمانيا، صديقاتها وهنّ يتحدّثن عن اللذة، لا تفهم المقصود. تُدرك أنّها تعرّضت لإهانة دائمة، هي حرمان أبدي. ختان البنات الذي يُمارسه الأقارب، لا الجلاد الغريب. لذا، يتخلّل الاستجواب بكاء كثير. في البحث عن الذات، تحكي مخرجةٌ سيرةَ جسدها لتستعيده من جلّاديه. تفكّر في ختانها، وتشعر أنّها لم تعد "طبيعية". تتعرّض لخسارة قاسية، ولإعاقة في روحها.

تزعم الأم أنّ ما فعلته بابنتها "أمرٌ من الله"، وما "أمر به الله" مقبولٌ في أفريقيا، حيث عشرات الملايين هن ضحايا الختان. لكن في ألمانيا، تفهم الشابّة أموراً أخرى. ترجع إلى موطنها الأصلي. تتم العودة إلى مكان الجرح لتصفية الحساب مع الماضي. تعود إلى قرية فلاحية فقيرة، لعرض بورتريهات نساء مجتمع ما قبل حداثي. يتغيّر المشهد. بدل فضاءات مدينية مُضاءة وأنيقة، ولقطات فيها شخصيتان عصريتان تتحدّثان في صالون عن الجراح والأحاسيس والكرامة، تنتقل الكاميرا إلى كينيا، حيث فضاءات فلاحية، ولقطات فيها زحام. تنتهي الفضاءات الفردانية التي تسمح للنساء بالتعبير.

تعرض الكاميرا كينيا من الطائرة. تنظر المخرجة إلى بلدها بعين أخرى. تحصل على مسافة مكانية ووجدانية، لإعادة تقييم ما جرى. حين تعود إلى أهلها، يكون الاستقبال دافئاً، بانتظار لحظة المواجهة مع الأمّ، التي لا ترى خطيئة في ختان البنات. هنا مجتمع فلاحي يحتاج إلى عمل دائم للنساء. لذلك، يُعتبر الحب مضيعة للوقت. الأمور محسومة في الجماعة. تظهر الأمّ في مقدّمة الكادر، وتظهر بناتها الخاضعات للختان في خلفيته. على وجوههنّ صدمة، لكنهنّ يتفهمن صدق أمّهن.

تمرض المخرجة. يُنهكها الانفعال، فتعالجها أمّها بدواء تقليدي، ثم تطرح عليها المرحلة الموالية: البحث عن زوج. لدى الأمّ خطّة حياة جاهزة لابنتها. لا داعي للتجريب.
تحاول الضحية التي تحكي أنّ تُعبّر عن معاناتها بحركاتٍ تحاكي الحدث. يتحدّث المناضلون والخبراء بلغة باردة، بينما تتحدّث الضحية بلغة موجعة. يشرح الطبيب للضحية ما الذي قطعوه من لحمها، فتتدحرج إلى قاعِ ألمٍ مزلزل. الطبيب متفهّم، لكن للأمّ معايير أخرى. أجواء الحوارات في المكاتب الزجاجية مختلفة عن الحوارات في الحقول.



تعيش المخرجة - الضحية وجعاً روحياً وجسدياً. تخرج الأمّ عن السيناريو، وتكشف حجم قلقها في مجتمع لا يشبه ألمانيا. يبدو أن المخرجة حذفت بعض لقطات توبيخ أمّها لها، لأنّها "لا تبحث عن زوج". فيها، تتكشّف العلاقة الحميمة مع الأمّ. مهما يحصل، يصعب النظر إلى الأمّ كعدوّ. الختان عيدٌ للطفل الذكر، ودخولٌ في الرجولة، وشرعية دينية. يُعلَن عن ختان الذكور بالطبل والزغاريد. لكنّ ختان النساء يجرى بصمت، ولا يُسمّى، ولا يُدقّ طبلٌ بمناسبته. يجرى ختان الذكور في مرحلة باكرة، بينما ختان البنات يحدث في مرحلة وعي بالذات. تُقدّر الـ"يونيسيف" أنّ هناك 200 مليون امرأة ضحية الختان حول العالم. هذا عنف. والعنف تعريفاً "خطاب أو فعل مؤذٍ أو مُدمّر، يقوم به فرد أو جماعة ضد أخرى"، بحسب بربارا ويتمر (الأنماط الثقافية للعنف). الأخطر حين يكون العنف مؤسّساتياً. هدف العنف، بحسب ميشال فوكو، إنتاج أجساد خانعة. ختان الشابّة تمهيدٌ لخضوعها وطاعتها. ختانٌ يضمن تعفّف الشابات عن الشهوة، ليبقين عذارى. ليست صدفة أن يمجّد السرد الديني آلاف العذارى اللواتي يخطبهنّ أمراء، ويرفضن. لهذا سوابق بابلية، فمن بين 282 بنداً في شريعة حمورابي، يغطي 73 منها مواضيع تتعلّق بالزواج والجنس وتقييد النساء. حتّى "قانون العين بالعين" يُمكّن الرجل الغني من أن يستعيض بنسائه لتلقّي العقوبة الجسدية بدلاً منه ("نشأة النظام الأبوي" لغيردا ليرنر).

لتقوية الجبهة النضالية، وفي بحثها عن ضحايا جدد، تلتقي بَريل ماغوكو شابةً أجرتْ الختان وهي واثقة من أنّ ذلك ضروريٌ لحياتها. هكذا يعرض "في البحث" وجهة نظر أخرى. يصوّر شابّة متنكّرة، تتحدّث الإنكليزية بطلاقة، وتدافع عن ختان النساء. يجعل تعدّد وجهات النظر الفيلمَ حوارياً، بدلاً من أن يكون أحادي اللون والنغمة. تُصدَم المخرجة ـ الضحية بدفاع نساء أخريات عن الختان. ينقلب حلمها بتصوير فيلم ثوري إلى إقرارٍ بواقع مُسلّم به. يمرّ الزمن. يُقدّم تصوير تغيّر الفصول كاستعارة لتغير المزاج. هكذا يقدّم الفيلم علاجاً نفسياً من خلال وقائع تُثبت أنْ من يرى مصائب غيره تهون عليه مصائبه.

"في البحث" فيلمٌ بلمسة نضالية لتصحيح الإساءة. محاولة لإضاءة حياة واقعية تُعاش في العتمة. إضاءة الروح البشرية أمام الكاميرا، وهذا صعب للغاية. تظهر الكاميرا كشاهد لتصوير حوار وحكي، يتعذر إظهارهما على الشاشة. فيلمٌ يصوّر نتائج الجرح النفسي، ويتناول ما يتعذّر تصويره، لذا تهيمن الحوارات عليه. ما يُنقذه من الضجر أنّ بَريل ماغوكو ضحية، لا مجرّد مراقبة لما يجري للآخرين. فيلمٌ وثائقي حواري لا مونولوغي، لأنّه أفسح لوجهة النظر المعارضة مساحة كافية، عارضاً إياها بشكل مبهج لا كئيب. بعد صخب الحوارات، وفي لحظات الصمت، تقارن الضحية ما ينقصها في المرآة. تقارن الـ"هنا" والـ"هناك". في الغربة، يتفهمونها. لكن هنا، في بلدها، يحبّونها ويضمّونها بدلاً من الإجابة عن أسئلتها.

يصوّر "في البحث" ما لا تصوّره ريبورتاجات القناة التلفزية الحكومية، المُغرقة في الرسميات. وهذا أكثر من الأفلام التي يُزعَم أنّها تجلب العار للبلدان التي تحكي ما يجرى فيها. تتحدّث بَريل ماغوكو من ألمانيا عن تجربتها في بلدها الأصلي. في المغرب، يُنظَر إلى مثل هذا على أنّه إساءة للوطن، سينمائياً. هناك، شجاعة الحداثة الغربية التي تضع كلّ شيء على الطاولة لمناقشته؛ وهنا، في الجنوب، ومن منظور أخلاقي روحي، لا فائدة من الجسد، فالعبرة في الروح العفيفة. لكنّ الحداثة تُعيد الاعتبار إلى الجسد، وبحسب بربارا ويتمر، فالجسد هو النهاية الطبيعية للتجربة الإنسانية.
المساهمون