"إلى المؤلفين الافتراضيين، المتوارين في المؤلف الذي نعرفه، والذين لم تكن لهم الفرصة لإنجاز عمل ما، يجب على النقاد أن يعيروا اهتمامهم، لأن من تقدير غنى الفنان معرفة كل الإمكانات التي ينطوي عليها والتي كان بإمكانه تنميتها، في حياة أخرى أو تحت اسم آخر".
بهذه الخاتمة ينهي الناقد بيير بايارد (1954) كتابه "ماذا لو غيرت الأعمال الإبداعية مؤلفيها"، والذي يأتي ضمن قراءة تحليلية لأعمال أدبية مكرّسة، ترمي إلى تقديمها بطريقة تزعزع الصورة المألوفة عنها نتيجة لارتباطها بأسماء كتّابها. الكتاب صدر مؤخراً عن دار "نينوى" وبترجمة محمد أحمد صبح، وهو الثالث بعد عملين كُتبا بنفس الحس الساخر وبذات الهدف وهما: "كيف نحسّن الأعمال الأدبية الفاشلة"، و"كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها".
وضمن مشروع نقدي من نوع خاص، يذهب الأكاديمي والمحلّل النفسي الفرنسي في هذا الكتاب إلى مستويات جديدة وجريئة، إن لم نقل غريبة، في تناول الأعمال الإبداعية، ويدعو إلى قراءة النصوص الأدبية والتعامل معها باعتبارها تخصّ كتّاباً آخرين. وينظر إلى الأمر كلعبة غير متوقعة النتائج بين القارئ والعمل الأدبي، حيث تصبح عملية تلقّي الكتاب مختلفة رغم تطابقه مادياً مع نفسه، ما ينتج مسارات جديدة لإدراك وتحليل العمل.
يرى بايارد أن فكرة السعي إلى إبقاء القارئ مخلصاً للكاتب وهمية، لأن اللاشعور يلعب دوراً حاسماً في تلقّي الأدب، وهو قوام العلاقة التي نقيمها مع الأعمال الإبداعية، ويعتبر وجود اسم الكاتب على عمله تقييداً للقارئ بصورة مسبقة كوّنها عن الكاتب، من دون أن يستطيع التحرّر منها. الأمر هنا مختلف عمّا فعله رولان بارت عندما أعلن نظرية موت المؤلف، التي لم تهتم بالنظر إلى العمل نفسه، لأن بايارد في لعبته النقدية يمنح العمل حياة جديدة، من دون تدخّل فيه.
هذه الفكرة؛ نسب الأعمال الإبداعية إلى مؤلفين آخرين، معروفة من قبل، كما يوضح الباحث نفسه، مستشهداً بطرح قدّمه صمويل بتلر في كتابه "مؤلف الأوديسة" ويفترض فيه أن مؤلف الأوديسة ليس هوميروس، بل كاتبة من صقلية، مبرراً ذلك بالصورة الإيجابية التي تظهر فيها المرأة في الأوديسة، وإلى تغلّب أفكار ومشاعر أنثوية فيها بشكل كبير، على العكس من "الإلياذة" التي تعطي سطوة للرجل.
يرى بايارد أن بتلر في فرضيته هذه، اتّبع حدسه ولم يفعل أكثر ممّا يفعله كل قارئ وهو يحاول التسلّل إلى حياة المؤلّف، التي إذا ما استُعملت بشكل ذكي قد تفيد أكثر في قراءة العمل، وهنا، يذكر أمثلة لمؤلفين ابتكروا هوية مصطنعة لأسباب متعدّدة، ويختار كلا من رومان غاري الذي تحوّل إلى إميل آجار، بعد أن شعر أن عليه التخلّص من الصورة المختزنة له، والتي اختلقها نقاد وقرّاء طوال السنين قائلاً "كنت متعباً من صورة رومان غاري التي التصقت بي منذ ثلاثين عاماً".
وكذلك فيرنون سوليفان الذي لجأ إلى تغيير اسمه، نظراً لأن أعماله تفتح الأبواب على عالم شهواني غير معتاد، وتسخر من الأخلاق النبيلة وتفضح التمييز العنصري. لذلك قرّر خلق شخصية المترجم بوريس فيان، التي قدّم من خلالها أعماله الشخصية على أنها مترجمة من الإنكليزية، حتى يستطيع تجاوز الأعراف الجامدة.
في القسم الأخير من كتابه يستبدل بايارد اسم المؤلف بالكامل، ويحوّل النص إلى مؤلف آخر ليدرك نقاط الالتقاء بين المؤلفين، كأن يقرأ رواية "ذهب مع الريح" للأميركية مارغريت ميتشل على أنها للروسي ليو تولستوي، ويوقّع "الأخلاق" باسم فرويد بدلاً من سبينوزا، ويقرأ رواية "الغريب" لكامو وكأن كاتبها هو كافكا، ليركّز خلالها على البعدين الاجتماعي والسياسي، بشكل مغاير، كما يتحدث عن غرابة الراوي التي تظهر بداية من عنوان الكتاب، ويلفت النظر إلى الاستعمال المتكرّر لصيغة الماضي؛ الصيغة الحيادية الباردة، التي تظهر خواء شخص حبيس داخل نفسه، عاجز عن الانفتاح على العالم.