دأبَ نُقّاد عرب كثيرون، إلى وقت غير بعيد، على التهكّم على الركاكة في الصياغة والعبارة عند كُتّاب آخرين، ناعِتينها بكونها "لغة الصحافة". بالطبع، ليس الأمر نيلاً من الصحافة ودورها الكبير في نشر الوعي وتقديم خدمات جليلة للمجتمع، والتي كانت فضاءً للتلاقي والحوار والتأطير، تَكتب فيها أقلامٌ عربية مرموقة، لكنّ التعريض والتهكم كانا إفصاحاً عن الخشية من التغيُّر الذي قد يمس اللغة، بمفرداتها وأساليبها واستعمالاتها، ومن ثَمَّ إلحاق الضرر بها، مع ما قد يستتبع ذلك من خلخلة في "الهوية".
والمعلوم أنَّ اللغة لا تستقر على حال، بمعنى أنها قَيْد التشكُّل على الدوام، ونعرفُ أنّ أصل ذلك التخوّف والتهجّم، في الوقت نفسه، هو شروع الترجمة في غزو الصحافة، منذ وقت مُبكّر، لأن الأخيرة اعتمدتها في الحصول على موادها، التي تطاول حقولاً تخصّ المعيش اليومي للإنسان، والتي يهم القارئ أن يطّلع عليها، ومن ثَمَّ استحال تصوُّر الصحافة بمعزل عن الترجمة، بل يُمكننا الذهاب إلى ارتهان الصحافة إلى الترجمة.
وما يؤكِّد التأثير الكبير للترجمة في الصحافة، وتبْعاً لذلك في المجتمعات ولُغاتها، أنّ الجديد اللغوي في عالَم اليوم تُغنيه الصحافة بصفتها وسيلة تواصل مهمة، وأن الوكالات الكبرى، كـ "رويترز" البريطانية أو "وكالة الصحافة الفرنسية"، وهما وكالتان تمطران البلدان ولغاتها يومياً بسيل من المفردات والعبارات المبتكرة، تعتمدان الترجمة، مثلما أنهما يُترْجَم عنهما، ممّا يُحوِّل اللغات المستقبِلة إلى إسفنجة تمتصّ ما يَفِدُ عليها، وتُضطرّ إلى استعماله وتَبَنّيه بِفعل قوة التداول. ويبقى الأهم هو أننا كثيراً ما نقرأ في الصحافة نصوصاً دون أن ننتبه إلى أنها مترجَمة.
لكنّ الصحافة من جهتها تحضر في الترجمة، لأن أخبارَها نصوصٌ أصليَّةٌ في أحيان كثيرة، تُحصِّل عليها بعد عمل شاق، وتغدو نصوصاً تَصْدُر عنها الترجمة حين نقلها الخبر ذاته إلى لغات أخرى. وتكفي الإشارة إلى أنه في المعاهد العليا للترجمة وكُلّياتها، تُعتَمَد النصوص الصحافية مادةً للاشتغال، اعتباراً لما يطبع أخبارَها من تنوُّع يُفيد في تكوين الطلبة مهنياً ومعرفياً، لصلتها المباشرة بالواقع المعيش.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاثنتيْن تتقاسمان أمراً مهماً؛ فنحن إذا كنا في حقل الترجمة نعرف أنّ المترجِم يقوم بدور الوسيط الثقافي، بنقله المؤلَّفات إلى قارئ غير الذي يستهدِفُه المؤلِّف، فإنّ الصحافي يكاد لا يختلف إطلاقاً عن المترجِم، لأنه هو الآخر يتكفَّل بالوساطة الثقافية حينما ينقل بلغته وقائع ومعطيات تخص مجتمعه أو آخر، فيكون صحافياً مترجِماً، أي وسيطاً ثقافياً.
ولا يخفى أن الترجمة تُعدّ من بين أهم مجالات انشغال الصحافة ومَصادرها، فالأخيرةُ تُدخِلها ضمن استراتيجيتها في مجال الإعلام الثقافي، ولا تكتفي باعتماد الأولى مادة لمواكبة ما في العالَم فحسب، وإنما تُفرِدُ لها ضمن أقسامِها القِسمَ الثقافي بِمراسليه ومَلاحِقِه أو صفحاته الثقافية، كما هو الحال في "العربي الجديد"، حين تتّخذ هذا النشاطَ التوسُّطي بين الثقافات ركيزةً وواجهةً؛ من خلال التعريف بالتجارب الإبداعية والنقدية والفكرية لدى الثقافات الأجنبية، فيَكون عملُها إعراباً عن موقف إيجابي من الغريب، تُبرهن من خلاله عن استعداد للإفادة من الآخر، وفي الوقت ذاته، تُوجِّه الفكر والإبداع إلى قضايا جديدة عليه، وتُطلِع الأذواق على حساسيات وجماليات جديدة.
والغريب أن الترجمة والصحافة كلتيْهما مثلما تلاحَقان بعامل الوقت، فتكونان مطالَبتيْن بتقديم النص في مدة معيّنة، كذلك يُتابِعهما النقْدُ والتوجيه، ولعلّ أبرز ما يُطالَبان به ضرورةُ التزامهما الحياد، فمثلما يُلِحُّ كثيرون على المترجِم كي يكون شفيفَ الحضور، بألّا يترك أثره، أي ما يدلّ عليه، فالأمر نفسُه يُطالَب به الصحافي، الذي يُؤَكَّد على ضرورة اكتفائه بأن يكون ناقلاً للمعلومة لا غير.