بين التاريخ وإسطنبول ومونتريال

10 مارس 2017
+ الخط -
لستُ ماهراً بالربط بين المقدّمات والنتائج، ولو كنتُ غير ذلك، لما انحدرت بي الظروف إلى السفر بالدرجة السياحية دائماً، متنقّلاً بين تاريخي الشخصي، وإقامتي المؤقتة في إسطنبول، وطبيبي الخاص في مونتريال. صحيح أنه من أصل سوري، ولكنه مثلي لا يتوقف عن السفر بين العوالم الافتراضية.

كان من المفروض، حسب درجة التلوث في حمص، أن يهاجمني السرطان قبل ثلاثين عاماً على الأقل. ولكن، يبدو أن لحمي مرّ لدرجة، لم يستطع هذا المرض، رغم كل توحشه، من افتراسي. وفي الوقت الذي فشل فيه السرطان، نجح فيه الأسد في تطفيشي من سورية كلها، لعل سرطان الغربة يفعل بي ما عجز عنه السرطان "الوطني"، كما حدث مع صديقي العزيز، عبد القادر عبداللي، فقد نجا من السرطان السوري، ليقع فريسة السرطان التركي الذي التهمه بسرعة فاقت سرعة الصوت.

كانت إقاماتي المتعددة في إسطنبول، تعبر عن رغبات متعددة المستويات أيضاً؛ فهي تقارب شهوة القرب من سورية والدخول المحرم إليها، والانكفاء إلى الأماكن الأثرية لما فيها من مشترك سوري-تركي وعربي-إسلامي، فأغرق في "شبر ماء" من التاريخ، مُتوهِّما أنني أصبحتُ ضليعاً فيه لمجرد زيارة إلى هذا الموقع أو ذاك، أو كتابة مقال لا علاقة له بالتاريخ، يقتصر على ذكر أسماء تاريخية. كنت في النهاية انتزع نفسي من التاريخ ومن مونتريال، للعودة إلى وطني البديل كندا.

كانت مواعيدي مع طبيب سرطان البروستات محجوزة سلفاً، قبل ستة أشهر، وإذا حدث وتأخرت لسبب ما، كانت سكرتيرة الطبيب تتصل لتعرف سبب تأخري، ولإعلامي بالموعد البديل.
ويخيب أملي في هذا البلد، دائماً، من الأطباء ومخابر التحليل. ففي كل زيارة إلى طبيب العائلة والطبيب الاختصاصي، يتم بعدها، إرسالي الى مخابر التحليل. وأرجو ألا تظنّوا أن السبب هو لطش المال مني، فهنا كل هذا مجاناً؛ المعاينة والتحليل والعملية وحتى الولادة (لا سمح الله) كلها مجانية، وبالتالي، لا طمعة لدى الطبيب في إرسال المريض إلى التحليل أو التصوير، إنما الهدف هو خدمة المواطن على أحسن وجه، يرضي الله وعبيده.

ولكنْ، كعادة الشرقي في "الوسوسة"، كنت أعيش الفترة التي تقع بين التحليل ووصول النتائج إلى الطبيب، في أوهام الأمراض التي يمكن أن تكون قد غزتني على غفلة من الزمن. كما حدث مع عبد القادر عبداللي الذي غزا السرطان جسده بين ليلة وضحاها، فأتصور أنواع السرطانات المحتملة، والعذابات التي سأمر فيها أثناء العلاج، وهل سأختار العلاج الكيمائي أو الاستئصال، إلى آخر معزوفة المظلوميات التي ترافق أبناء بلادنا.

ولكن، ما يزعجني دائماً، وهو أن هؤلاء الأطباء ومخابر التحليل يخيّبون أملي، ويقولون لي إنني سليم الجسد، رغم بلوغي الثامنة والستين. بل إن طبيبي السوري قال لي اليوم: "أنا أضمن أنك تستطيع الزواج إذا رغبت". وخطر على بالي فوراً احتمال المؤامرة بينه وبين محمد عنتابلي، صديقي اللندني، فكلاهما دمشقي، والله أعلم ما هو نوع الاتصالات التي تجري بين الشوام، ونوع المؤمرات التي يحيكونها ضد حمصي مثلي.

المهمّ، أنّ زيارتي الثانية، اليوم، كانت إلى مشفى مونتريال العام، لرؤية طبيب البروستات الذي أكَّد أنّ كلّ قصص السرطان لا أصل لها. وفي أثناء مغادرتي للمستشفى، لفت انتباهي باب الصالة المفتوح، فتابعت سيري في البداية. ولكن، بعد أن تجاوزت الباب بعدّة أمتار، عدت إلى الباب المفتوح على مصراعيه، لأتأكّد مما رأيت. نعم، كان ما رأيته صحيحاً، فالقاعة عبارة عن كنيسة صغيرة في الطابق السادس، ولا أعرف إذا كانت هنا كنائس أخرى في بقية الطوابق. كمسيحي، رأيت الأمر عادياً، بل وفرحت به، ولكن لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل: "ماذا سيقول عنا أحد الغربيين لو أتيحت له زيارة أحد المشافي العربية، ووجد جامعاً في أحد الطوابق؟". لن أسترسل، فالتهم جاهزة عادة، ويغزو التاريخ، من جديد، رأسي، وأشتاق إلى إسطنبول وسورية، رغم خرابها، وموت السوري عبد القادر عبداللي في أضنة التركية.

65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
ميخائيل سعد
ميخائيل سعد

مدونات أخرى