بنعيسى بوحمالة.. القصيدة من هارلم إلى الخرطوم

16 يونيو 2015
بوحمالة في بورتريه لـ جنان داوود (العربي الجديد)
+ الخط -

بنعيسى بوحمالة أحد الذين ساروا في درب القصيدة، كتابةً ونقداً. الشاعر ترك القصيدة وانتقل إلى نقدها، محققاً منجزاً نقدياً لا يؤمن بحدود جغرافية في الكتابة.

أصدر مجموعة من الدراسات النقدية المرجعية كـ"النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجاً" (2004) و"أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر" (2009)، و"مضايق شعرية" (2013)، ثم "شجرة الأكاسيا.. مؤانسات شعرية، في الشعر العربي المعاصر" (2014)، إضافة إلى ترجماته للشعر الأوروبي، ومساهماته في كتب جماعية حول الشعر المغربي والعربي والعالمي.

في البداية، يشرح صاحب "مضايق شعرية"، لـ "العربي الجديد"، هجرته من القصيدة إلى النقد قائلاً: "لعلّ هذا الطابع المركّب للدخول إلى حقل إبداعي أو معرفي متعيّن قائم وينطبق على الكثير من الحالات. كتبت عدداً ضئيلاً من القصائد لكني ظللت لصيقاً بالشعر في جلّ قراءاتي الأدبية، الشعر العربي القديم والآخر الحديث، فضلاً عن الشعريات الأوروبية والأميركية والأفريقية والآسيوية، معمّقاً منزعي الوجودي – الشعري المترسّخ ومواظباً، بقوّة الأشياء، على تعضيد ولائي لجنس الشعر عبر المقاربات النقدية. ذلك أن النقد ضرب من مداناة ومؤانسة وحوار، أي إنصات متبادل".

النقد في تجربة صاحب "شجرة الأكاسيا" يأخذ قيمة مضاعفة، من خلال لغة الناقد الدقيقة ونظرته إلى القصيدة كمادة للنقد، وكذلك تتبّعه لتجارب شعرية تقع في مدار شاسع محلي وعربي وأفريقي وعالمي. وعن هذه السمة التي تطبع مشروعه يقول:

"لم يحدث أن انحبست في قوقعة شعرية مغلقة، بل تكاد تتوازى قراءاتي، وبالتبعيّة مقارباتي، للشعر العربي المعاصر مع تلك التي أفردتها لجغرافيات شعرية مختلفة. فلقد مثّل الشعر، ولا يزال، بحكم خفره لمسيرة الوجود الإنساني، ذلك الأفق التّعبيري المشترك بين الشعوب والثقافات، ذلك الخزّان الهائل للانفعالات والتّمثلات الجوهرية العابرة للأزمنة والأمكنة، الشيء الذي يتساوى معه نص شعري آيل إلى ثقافة الأسكيمو أو آخر أنتجته ثقافة المايا ونص سويدي أو أميركي موصول بموجة ما بعد الحداثة".

يرى بوحمالة أنه وفي الرواية، بما هي جنس أدبي طريّ لا يتجاوز عمره خمسة قرون، "من الممكن الحديث عن محليّات، أو قُطريّات، روائية وبالتالي، عن رواية فرنسية وأخرى روسيّة وعن رواية مغربية وأخرى مصريّة. بينما الشعر - بتعبير الفيلسوف الألماني هيغل- فنّ كوني ضارب. وكلّ ما هنالك أنّي بقدر ما أعثر على روحي في الشعر العربي ألقاها أيضاً في الشعريات العالميّة".

في ظلّ الافتتان المهيمن بالأدب الغربي، يُغيّر بوحمالة دفّة النقد صوب الشعر الأفريقي الذي كان خارج بؤرة الالتفات: "الموسيقى هي ما يقودني إلى فضاء هذا الشعر وتيّاراته وأسمائه، أقصد ولعي الباكر بموسيقى الأفارقة الأميركيين، كالجاز والبلوز والسّول والغوسبل، في ارتباطها بالذاكرة والمعيش، ما تعكسه قرائن شعرية، قوّة وفعلاً، في لباسهم الزّاهي وحركيّة أجسادهم وطقوسيّة بهجتهم أو حزنهم، في لكنتهم الإنجليزية المستعذبة وموسيقاهم الشجيّة".

ويوضّح: "جاذبية كهذه هي ما قادني، لدى زيارتي لنيويورك، منذ أربع سنوات، إلى أن أقضي معظم الوقت في حيّ "هارلم" الخرافي. معقل السّود الأميركيين. ألم ينعت فديريكو غارسيا لوركا في ديوانه "شاعر في نيويورك"، الذي كان ثمرة زيارته الأميركية التاريخية، السّود بملح أميركا؟ عبر بوّابة الموسيقى بدأت قراءتي لأدب السّود الأميركيين، شعراء وروائيّين ومسرحيّين، وحين اكتشافي، وأنا طالب في الجامعة، التجربة الشعرية الأفريقية العربية ممثلة بالشاعر السوداني، محمد الفيتوري، الحفيد الرمزي لعنترة بن شداد وأجيال من الشعراء السّود في التراث العربي، وكأنّما كان الأمر بمثابة إيقاظ لتلك الترسّبات والأرصدة التي استقرّت في وجداني عن الموسيقى السوداء، والنتيجة هي تصميمي، وقتها، على تعميق معرفتي ليس فقط بتجربة الفيتوري وتجارب أقرانه السودانيين، بل وكذلك بالمدار الأوسع الذي صنعته أسماء أفريقيا من إيديولوجيا ونظرية و تعبيرات شعرية وثقافية، مقارناً بين التّعبير الشعري العربي لدى الفيتوري وشعراء أفارقة وأميركيين وأنتيليّين باللغات الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو البرتغالية. على أن المكسب الأكبر لي كان معرفة أفريقيا أكثر، تاريخها ومجتمعاتها و ثقافاتها وجروحها ومآزقها وتطلّعاتها".

لا يقتصر مسار بوحمالة على الكتابة فحسب، بل يزاوج بينها وبين دوره الأكاديمي في الجامعة، وكذلك مجهوده في الترجمة. ويعتبر أن هذه المزاوجة "على استشكالها، قيمة مضافة إلى مساري الجامعي والنقدي كليهما، إذ بقدر ما لا أسقط، البتّة، من حسابي كوني مدرّساً جامعيّاً، و ذلك بما تستلزمه الجامعة من أعراف علميّة تقوم على الصّرامة والتدقيق والتّقنين، لا أستطيع أن ألغي البعد المتحرّر والانفتاحي والإبداعي والبوهيمي في شخصيتي، والذي توفّره لي مقارباتي النقدية، نصوصي الكتابيّة الحرّة، وكذا ترجماتي".

يقول بوحمالة إن "قسطاً وافياً من تربيتي النقدية يعود الفضل فيه إلى النّاقدين، الفرنسي رولان بارت، والمصري أنور المعداوي، ففي لغتهما النقدية السّلسة وتخريجاتهما القرائية النّاعمة والعميقة، وجدتُ هواي النقدي المخصوص الذي تجلوه جملة المقاربات التي أتيح لي إنجازها على مدى سنوات. هكذا أحاول استثمار الفسحتين كلتيهما، واحدة لصالح الأخرى، ممّا لا يمنع عندي، في أثناء ممارستي الكتابيّة، من الحرص على أخلاقيات بناء المعرفة النقدية، وفقاً لما يستوجبه الدرس الجامعي، بعيداً عن العبوس والوقار الأكاديميّين. لأقل بأنّ ما يتحكم فيّ هو حساسيّة شعرية غائرة لا فرق في المتعة الفائقة التي تمنحني إياها حين أدرس معلّقة الحارث بن حلّزة أو إحدى قصائد بول سيلان، فالشعري هو بوصلتي في بريّة العالم بحثاً عن معنى ما لوجودي".

في أحدث إصداراته، الذي جاء بعنوان "شجرة الأكاسيا؛ مؤانسات شعرية في الشعر العربي المعاصر" (دار رؤية)، يستمر بنعيسى بوحمالة في تتبع مسارات القصيدة العربية المعاصرة، من خلال مقاربته لتجارب شعرية مغربية من أجيال مختلفة وتجارب شعرية قد لا يكون ثمة قرب بينها، القاسم المشترك الوحيد بينها هنا هو القارئ/ الناقد.

دلالات
المساهمون