كان بليغ غزير الإنتاج، ودائم الحركة في نطاق تجربته؛ إذ يتعاون مع أصوات ذات شخصيات متباينة للغاية، بل وبعضها لم يكن ذا شخصية. ثمة أصوات لقيت نجاحاً مدوياً معه أو مع سواه بعد أن بدأت معه، وبعضها لم نسمع عنه نحن، وهناك من لم يخرج إلى النور أصلاً.
كأي ملحن يبدأ الطريق متأثراً بكبار معاصريه، تلون بليغ بين التأثّر بشخصياتهم وخصائص ألحانهم النغمية، وبالطبع أنتج ألحاناً مختلفة عن جوهر شخصيته التي استقرّ عليها لاحقاً، بين "تخونوه" التي لا تشبهه أكثر مما تشبه الموجي، وأغانيه لأم كلثوم التي تتخذ القالب العبد وهابي. لكن صاحب لحن "سيرة الحب" أخرج قدرته الخارقة الشخصية في كل الحالات، التي تتمثّل في صُنع المذهب السهل البسيط الذي لا يقاوم ولا ينسى مع الزمن، بغضّ النظر عن جودته.
لحّن بليغ عبر مشواره أكثر من ألف عمل بكثير. لم يسمع أغلبنا عن كثير من الفنانات والفنانين الذين لحّن لهم، مثل سلمى، ونعمى، وإلهام بديع، وعصمت عبد العليم، وآخرين كانوا جزءاً من تجريب بليغ المستمر، وحبّه للاكتشاف، ورغبته في التحقق الموسيقي، إلى جانب آخرين نالوا الشهرة على يده ويد غيره، قد لا نعرف أنه كان جزءاً من مشوارهم، مثل طلال مداح، ومحمد عبده، ومحمد ثروت، ومحمد عبد المطلب، وسميرة سعيد، وماهر العطار، وغيرهم.
ربما كانت القدرة التجريبية الواسعة التي امتلكها للعمل مع أصوات عديدة مختلفة تماماً عن بعضها، هي محاولة للبحث المحموم عن نفسه في الصوت الأعظم. لعلّ الصوت الفائز، في هذه المحاولة المستمرة، لم يكن الصوت الذي ينفّذ تعليمات بليغ الحرفية، بل على العكس، هو الصوت الذي يُخضع ألحان بليغ، ويتمرّد على فكرة أن أي صوت يغني لحناً لبليغ هو مجرد أداة تصوغ وتصاغ في آن واحد.
قبل الحديث عن استخدام بليغ لصوت المغني كأداة، سنذهب للحديث عن استخدام بليغ للكورال؛ حيث على العكس من عادة اعتبار الكورال سنّيداً للمطرب، ريثما يلتقط آنفاسه ليعاود الغناء، أو مجرد تنويع صوتي لمنع الملل، أو أداة لتحفيظ المستمع المقطع الذي يتردد، كان الكورال في أغاني بليغ مكوناً أساسياً لا يمكن تخطيه، بل يوازي، أحياناً، الصوت الأساسي أهميةً واستقلالاً بالدور، كما نرى في "خلاص مسافر" لـ شادية و"أنا كل ما أقول التوبة" لـ عبد الحليم؛ إذ بدأت الأغاني بالكورال، وكان مكانه، في داخلها، ضرورياً ومكوناً لحنيا أساسياً على طول اللحن.
تنبع نظرية استخدام بليغ لصوت المغني من كونه (أي بليغ) مغنياً في المقام الأول، قبل أن يكون ملحناً، فهو بالرغم من محدودية صوته، إلا أنه كان يعرف بالضبط ماذا يريد من الصوت الذي يلحّن له، وأيضاً ما لا يريده. كما كان يعرف بالضبط قدرات الصوت الماثل أمامه بحيث يدرك استخدامه الأمثل من دون أن يُسقط الضوء على مواطن ضعفه. لكن بليغ كان ملحناً أنانياً للغاية لذات السبب. كيف؟
في حين صاغت ألحانه شخصيات حقيقية لمطربين كبار، مثل صباح، وسميرة سعيد، وميادة الحناوي، فهي بالمثل استخدمت أصواتاً لها قيمتها كأداة تصوغ لحنه وصولاً إلى الكمال، وأشهر الأمثلة صوت وردة. غالباً، فإن ألحان بليغ لوردة هي أقل الألحان التي غنتها حرفية ومناسبة لصوتها وشخصيتها التي ظهرت أكثر مواءمة لألحان محمد عبد الوهاب، وأعاد اكتشافها صلاح الشرنوبي في التسعينيات. أصوات أخرى كانت شخصيتها أقوى من أن يفرض بليغ نفسه عليها، ولكن في الاتجاه المعاكس حققت نجاحاً مدوياً، صوت محمد رشدي مثلاً، صاحب "طاير يا هوى"، و"عدوية"، و"عالرملة" و"يا ناعسة وخبريني"، وأيضاً أحمد عدوية الذي قهر شخصية بليغ اللحنية، ولم يتمكن من إخضاعه لها، ولأول مرة نسمع لحناً لبليغ من دون أن نجزم بأنه صاحب اللحن، "ياختي اسملتين" و"بنج بنج".
استخدم بليغ جميع الأصوات كما لو أنّها آلة موسيقية تشكّل جزءاً من توزيعه لألحانه، كأنّه يضيف صوت المغني إلى موسيقى تصويرية في مشهد، اكتمال الصورة اللحنية والحالة التي يرغب بتجسيدها في الأغنية. لعلّ أكثر الأصوات طاعة وذكاءً، وأقربها للمدرسة التعبيرية التي ينتمي إليها بليغ بإخلاص، هو صوت عبد الحليم، الذي أدرك منطقة قوته الكامنة في ترجمة الملحّن بدقة، وضخّمها عبر صوته، ليصل إلى عواطف المستمعين مباشرة، ولا سيما في الأغاني ذات الطابع الشعبي، أو التي استخدم فيها بليغ بعض الثيمات الشعبية المصرية الموجودة بالفعل، وأعاد توظيفها وتصويرها عبر لحنه من جديد.
استلهام بليغ للموروث الشعبي الموسيقي ليس غريباً؛ فهو ابن شُبرا التي تمزج الجديد بالقديم من دون فواصل. هذا الاستلهام تعدى مرحلة الاقتباس، كما في "يا عزيز عيني" و"سالمة يا سلامة"، إلى التصوير اللحني المغاير لجمل تراثية وفقاً لوضعها في البناء الدرامي لكلمات الأغنية، مثلما تكرّرت هذه الجمل في "قدك المياس" و"إن لقاكم حبيبي سلموا لي عليه" و"أنا كل ما أقول التوبة" بثيمات مختلفة. تعدّى بليغ مرحلة الاستلهام إلى التمكّن والخلق؛ حيث أصبح قادراً، بمنتهى السهولة، على خلق جمل بسيطة قصيرة سهلة الترديد ولا تُنسى في مذاهب أغنياته، لتصبح هي نفسها مع مرورالوقت جزءاً من الموروث الشعبي في الحاضر ولتتحقق نبوءة محمد فوزي له بترديد ألحانه لعقود طويلة.
تميز بليغ بإدراكه لأهمية الإيقاع، كما ذكر في خطابه لصديق؛ حيث أجاد استخدام الإيقاع كمؤثر صوتي يكاد يفوق اختيار المقام اللحني أهمية بالنسبة له. وفي حين أن النقلات الإيقاعية بين أجزاء أغنية بليغ الطويلة الواحدة، تبدو مفاجئة حد الصدمة، وقد تعطي انطباعا بمراهقة الملحّن الموسيقية وتخبطه وقلة حيلته، إلا أن هناك أمرين، بعد التمعّن، يتضحان للسامع المتمهل:
الأول، هو أن هذه النقلات مقصودة الحدة من أجل الأثر الدرامي، ويُمكننا فهم حين نعرف أن بليغ كانت عاطفته الأولى هي وضع الموسيقى التصويرية، وعمل على ذلك، فعلاً، من أجل أعمال مسرحية طوال حياته، وكانت الأغاني جزءاً من تلك الأعمال التصويرية، وبعضها اشتهر من دون علمنا أنها جزء من عمل أكبر، وانتقلت هذه الخصلة التلحينية لشخصيته؛ حيث الفواصل الموسيقية بين الأجزاء الغنائية في الأغنية الطويلة الواحدة هي موسيقى تصويرية لمشهد لا يحكي، وتصف عاطفة تمهد للأثر الدرامي لما بعدها، لذلك انتفت صفة الوحدة النغمية والإيقاعية عبر الأغنية والانسجام في أغلب أعماله. والألحان التي لم تتحلّ بهذه الصفات، بدت بعيدة عن شخصيته، ومملّة.
أما الأمر الثاني؛ فهو الاكتئاب ثنائي القطب الذي تصرخ به تلك الألحان، والذي يعرف من يعانيه أنها خير ترجمة له، ويستنتج أن بليغ كان يعانيه من خلالها؛ أي هذ التأرجح الصارخ بين الفرح والحزن والحيرة واليقين، حدة العواطف وتقلبها، تغيير الإيقاعات الداخلية باستمرار، كلها، غالباً، تشبه بليغ نفسه، وتغيّراته.
رحل بليغ حمدي في سبتمبر/أيلول من عام 1993. هناك من يُرجع وفاته إلى يوم 12 من هذا الشهر، وآخرون إلى 17، والبعض إلى 10، وفريق آخر إلى 11. وهناك من يقول إنه وُلد في عام 1932، وثمة من يشير إلى 1931. إلا أن معظم الدلائل تُشير إلى أنه وُلد عام 1929، لأنّه لحّن أغنية "حب إيه" عام 1959، وكل المصادر تُشير إلى أنه لحّن هذه الأغنية وهو في الثلاثين من عمره، كما أنه رحل يوم 12 سبتمبر/أيلول.