بلية ودماغه العالية

29 ابريل 2015
+ الخط -

من قصص طريفة قرأتها، في سني مراهقتي، قصة قصيرة لإحسان عبد القدوس، "مهندس ميكانيكي"، عن زوجة تشعر بالخجل من أن زوجها يعمل سمكرياً، ولا تشعر بذلك، وهي تنعم برغد العيش من عمله الذي وضعها في مصاف الطبقة الراقية في مصر، وكانت تقدمه لصديقاتها الراقيات على أنه "مهندس ميكانيكي".
التقليل من شأن العامل الذي يدر دخلاً أكثر من الموظف أحياناً، مع الحاجة إليه، والنظر إلى حملة الشهادات وأصحاب المناصب بنظرة احترام في مقابل نظرة دونية، قد لا تخلو من تمييز نحو العمال بكل فئاتهم، هو ديدن الناس في كل المجتمعات، لكن ذلك لم يمنع الحقد الدفين عليهم، لأنهم يجنون أضعاف راتب الموظف الذي قد يصل إلى أعلى درجات السلم الوظيفي، وقد أدى ذلك إلى أن يستغل أصحاب المهن والحرف، في مقابل ما يشعرون به من دونية، الطبقة المتعلمة. ويضحكك الفيلم التلفزيوني "استقالة عالم ذرة"، حيث يقوم فيه الفنان سيد زيان، بحركاته وأسلوبه المضحكين، بدور السباك الذي ما إن لمس بيده صنبور الماء المعطوب في بيت عالمة الذرة سهير البابلي، حتى طلب أجرة تفوق راتبها هي وزوجها الأستاذ الجامعي، واضطرت في النهاية للاستقالة، لأن ما تدفعه للمربية العاملة في بيتها، والتي تعنى بطفلها، يستهلك راتبها.
وكنا، في الأول من أيار كل عامٍ، صغاراً وكباراً، يبهجنا فيلم "الأيدي الناعمة" الذي كان يعرضه التلفزيون الرسمي المصري بمناسبة عيد العمال، وكنا نتضامن مع صهر الباشا السابق، والذي تزوج ابنته رغماً عنه، وهو يعمل ميكانيكي، ونفرح لزواج الباشا في النهاية بشقيقة الميكانيكي، دليلاً على التحام الطبقات، وعدم استغناء إحداهما عن الأخرى، وهذا أحسبه لا يحدث إلا نادراً. كنا نشاهد الفيلم فيما تستبدل أمي ملابس الشتاء بملابس الصيف في الخزانات، فالأول من أيار بداية الصيف عندها، كما عند معظم الأميركيين.
حالياً، في غزة وحدها، والتي عدد سكانها مليون وستمئة ألف مواطن، يوجد 200 ألف عامل يعانون من البطالة، حسب إحصاءات وزارة الاقتصاد، نتيجة إغلاق معابر غزة وحصارها، وانضم آلاف الخريجين إلى قائمة العاطلين من العمل، وتوجه كثيرون منهم لمزاحمة العمال الذين ما زالوا يجدون عملاً في غزة، فأصبح هؤلاء الخريجون يعملون في الحدادة والسباكة وورش السيارات، واحتفظوا بشهاداتهم الجامعية معلقة على جدران بيوتهم. وأصبح الشاب الذي يتقدم لخطبة فتاة يقدم نفسه بأنه خريج كلية هندسة مثلاً، ويعمل في ورشة سيارات، وتتردد فتيات جامعيات في الموافقة على الزواج به، وتقبل أخريات، على أمل أن يعود إلى وضعه الطبيعي لو انصلحت الأحوال، حسبما يقنعها من حولها، فيعمل مهندساً في مكتب أو شركة، فالمظاهر الاجتماعية تهم الفتاة قبل كل شيء، بغض النظر عن العائد المادي الذي يعود من عمل "العريس" الذي سيعود لها، في نهاية اليوم، بملابس متسخة وملوثة بزيت السيارات مثلاً.
وتتعثر، حالياً، في شوارع غزة بــ "الصبي بلية"، وهو الطفل الذي يعمل في ورشة أو منجرة أو تحول إلى بائع متجول، يتقافز بين السيارات، ويلح على المارة ببضاعة مزجاة، وكثيراً ما تضطر، بسبب منظره البائس، أن تمنحه قطعة نقدية صغيرة، وترد عليه بضاعته، والمستفيد من عمالة هذا الطفل صاحب العمل، إن كان  يعمل في ورشة والده العاطل من العمل، القابع في البيت،  فـ "بلية" تسرب من المدرسة، وربما يصبح من "أولاد الشوارع" مع غياب دور الحكومة في رعاية هؤلاء الأطفال، والحفاظ عليهم، ومنع تشغيلهم، أو إلحاقهم بمدارس صناعية، مثلاً،  لتعلم المهنة على أصولها، حتى لا يبقى الواحد منهم يقوم بدور "بلية" العامل الصغير المغلوب على أمره من الأسطى صاحب الورشة، كما صورته الدراما السينمائية والتلفزيونية، وقللت من شأنه وشأن كل العمال، في انحياز واضح أو خفي للمتعلمين "بتوعين الشهادات".

 


 

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.