04 نوفمبر 2024
بقايا كلام على حائط أم جورج في إدلب
نشأتي في بيئة تقليدية تميل في الغالب نحو التسامح في الدين وفرائضه، سمحت لي بالتعرف مبكراً إلى المسيحيين في إدلب، حيث دخلت بيوتهم وأكلت من خبزهم وشربت من خمرهم. وسأروي حادثتين مهمتين: الأولى تتعلق بأبي، والثانية بجدي.
في خمسينيات القرن العشرين، اشترى أبي قطعة أرض تبلغ مساحتها مئة متر مربع من "أبو حنا" بعقد مكتوب وموقع ليقيم عليها بيتاً. وقد ولدتُ أنا في هذا البيت الذي كان يتألف من قبو ومربع فوقه ومنتفعات وحديقة صغيرة. وكان جدي قد اشترى قبل ذلك قطعة أرض من "أبو حنا"، وبنى عليها أيضاً بيتاً، وكان في ضواحي مدينة إدلب بعيداً عن العمران تلك الأيام، فكان أصدقاء جدي من زقاق حمام الميري مكان نشأته يقولون له: يا عثمان، خذ حذرك حتى لا تأكلك الضباع.
كان "أبو حنا" يمتلك أرضاً واسعة أمام باب بيتنا، وكان تنور خبزنا يقع في أرضه - استملكت الدولة السورية فيما بعد أرضه وبنت فوقها المساكن الشعبية الجنوبية في إدلب - كان فيها أشجار زيتون وتين ورمان، وفيها أرض "سليخ" يزرع فيها الفول الأخضر في الشتاء، وفي الصيف يزرع الحمص، وفي بعض السنين البندورة والقرع.
المهم، في سنة من تلك السنين، وفي ضحوة النهار، جاء "أبو حنا" يتفقد أرضه، فوجد فلاحاً لا يعرفه - من آل شاباش - يفلح أرض "السليخ" بالفدان، ولم يكن على علم بذلك. فقال للفلاح: ماذا تفعل؟ قال: كما ترى أفلح. فقال له: ومن أمرك بذلك؟ قال: أنا أمرت نفسي، وسأزرع الأرض وسأحصد المحصول، عجبك أهلاً وسهلاً، ما عجبك بلط البحر. وحصلت مشادة كلامية بين صاحب الأرض والفلاح. وفي النهاية ضرب الفلاح المسلم صاحب الأرض المسيحي بالمساس الذي يهشّ به على فدان بغاله، فأسقط له الطربوش الأحمر عن رأسه وجرح وجهه وسالت الدماء على لحيته. في هذه اللحظة وصل أبي مصادفة، وكان قادماً إلى البيت من دكانه وسط المدينة في شارع شكري القوتلي مقابل دكان الحلاق نافع فرح والد الخوري إبراهيم فرح، ورأى ذلك المشهد، فصاح يا أهل النخوة والمروءة، فاجتمع بعض الشباب والرجال في الحارة.
أحضر أبي الماء والدواء من بيتنا، وأسعف "أبو حنا" أولاً، وهدّأ من روعه، وأجلسه على كرسي أمام بيتنا. طبعاً، ذلك الفلاح الذي أراد اغتصاب الأرض حمل عدته وفدانه، ولم يعد إلى الحارة أبداً. شاعت هذه القصة في حارة المسيحيين وما فعله راشد دحنون. وقد كان أبي شيوعياً تلك الأيام مع خالد بكداش. وقد زادت هذه الحادثة من روابط العائلات المسيحية مع أبي، والظاهر أنها انتقلت إلى أولاده.
جدي عثمان دحنون كان فلاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين، مُدعياً أن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة"، وقد كنتُ قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في شتل البندورة.
ظلَّ جدي فترة طويلة من عمره يعمل في أرض آل أسبر، والذي خبرته وتعلمته من علاقتي المبكرة مع جدي، أن المصحف الذي كان يجوّد آياته في الفجر كانت تبقى معانيه في صدره إلى فجر اليوم التالي حين يقرأ في المصحف من جديد. جدي لم يقرب الحرام كلّ حياته، وكان تفريقه بين الحلال والحرام أمراً غاية في الدقة، وقد أصرَّ عليه إصراراً عجيباً. وأزعم أنَّ هذه الصفة كانت شديدة الوضوح في حياته. لذلك، كانت علاقته صادقة ومميزة مع المسيحيين. كان أميناً في حساب أرزاقهم، فأحبوه ووثقوا به.
معرفتي بالمسيحيين كانت بداية في الصف العاشر في مدرسة المتنبي الثانوية في مدينة إدلب مع آل قرنوب، ومن ثم تشعبت معرفتي بالعائلات المسيحية: آل مرجانه، آل أبري، آل شماس، آل نعمان، آل بطيخة، آل غنّوم، آل حكيم، آل بيطار، آل كباد، آل زيادة، وقد كان الدكتور فؤاد زيادة - رحمه الله - صديقي في آخر أيامه، يشتري من مكتبتي، وطبعاً يعرف عائلتي: أبي وجدي وأعمامي. تعرفت إلى الخوري إبراهيم فرح قبل أن يكون خورياً في أثناء دراسته بالمعهد التجاري في حلب، ولحاجة الكنيسة إلى خوري من إدلب، أُرسل لدراسة اللاهوت في بيروت، ومن ثمَّ عاد خورياً في كنيسة الروم الأرثوذوكس في مدينة إدلب. وفي مدينة إدلب كنيسة إنجيلية للبروتستانت بنتها إرسالية إنكليزية في أواخر القرن التاسع عشر.
توثقت علاقتي بالعائلات المسيحية حين استأجرت دكان المكتبة في بناية آل أبري أمام بيت أم جورج الذي كنت أضع على حائطه مسند الجرائد والمجلات. جميع العائلات المسيحية صارت تشتري من مكتبتي: صبايا وشباب، نساء ورجال، كبار السن جلسوا عندي، واستمعت إلى قصصهم وحكاياتهم، وعلمت الكثير عن تفاصيل حياتهم.
وشاءت المصادفة أن أتعرف إلى غسّان غنّوم الذي درس على حساب أبيه المحامي أنطون غنوم المشهور في خمسينيات وستينيات القرن العشرين في إدلب، وكان في الكتلة الوطنية. تخرَّج غسّان غنّوم مهندساً زراعياً من جمهورية بلغاريا الاشتراكية في بداية السبعينيات، وتزوج بلغارية تحمل ذات اسم ابنة ستالين، سفيتلانا، وأنجب منها ثلاثة أبناء: صبي وبنتان. وكان والد سفيتلانا عضواً في اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي البلغاري. ثمَّ رفضت الجامعة في صوفيا عاصمة بلغاريا الاشتراكية طلب غسّان غنّوم لدراسة الدكتوراه في الزراعة. اكتشفت أنه "رأسمالي" يدرس على حسابه وأفكاره إمبريالية. ترك بلغاريا مع أسرته وذهبوا لعند ابن عمه في كندا ودرس الدكتوراه في جامعة "مكغيل" الشهيرة في مونتريال.
غسّان غنّوم كان يُجيد البلغارية والفرنسية والإنكليزية كأهلها ولغته العربية سليمة، ويحفظ الكتاب المقدس "الإنجيل والتوراة" بالفرنسية والإنكليزية والعربية، ويحفظ الكثير من آيات القرآن. كان يعشق السوالف والحكايات، سمعت منه الكثير، وكان صادقاً في ما يقول، لا يعرف الكذب أبداً. وفيه لا تزال روح الطفولة.
من الأمور التي تبلبل العقل، ما سمعته من بعضهم في التشنيع عليه والتأول عليه دون علم ولا معرفة بشأنه ومكانته وعلمه. وأحسب أنه كان يمتلك معارف وعلوماً لا يُجيدها الكثير ممن كنت أعرفهم من المسيحيين والمسلمين.
عابوا عليه استماعه إلى المغني الشعبي من سراقب أحمد تلاوي "أبو حسين". كان يحبه، وحدثني الكثير عنه، وأسمعني مواويله التي يحتفظ بها على موبايله، فأحببته أنا الآخر، وصرت أستمع إليه. وكان يقول: هؤلاء "جهال"، يستمعون إلى موزارت و"بيت هوفن" وتشايكوفسكي في بحيرة بجعه، ويأنفون من الاستماع إلى أحمد تلاوي، ومن يستمع إليه في نظرهم من الرعاع والعوام. وكان يغيظهم أن يحضر أحمد تلاوي شخصياً ليسهر عند غسّان غنّوم في غرفته الوحيدة على سطح بناية الوقف المسيحي.
كانت المئات من الحوادث في حياة المسيحيين تتجمع عندي في المكتبة، وأكتم سرَّها، ولكنها أعطتني صورة واضحة عن ثقافتهم الدينية والاجتماعية. وبما أنني مع "الثقافة الكونية"، إن صح التعبير - على طريقة هادي العلوي البغدادي - أو لنقلْ المعرفة الكونية، فأنا لا أميل إلى معرفة دين الشخص ولا يهمني هذا الأمر.